أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{قَدْ جَاءَكَمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُم ْ: فَمَنْ ابْصَرَ فَلِنَفْسِهْ: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظْ. وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَينَه ُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونْ}(الأنعام 105- 106).
هذا القرآن نور على نور، من أراد أن يعرف الله حقا فليدخل إلى رحابه تدبرا وتأملا وقراءة وترتيلا، اقرأه بالليل والنهار، واجعل لك أورادا منه لا تنقطع حتى تموت، عسى أن تكون من أهل الله، لأنه ثبت في الحديث الصحيح: > أهل الله أهل القرآن< أو>أهل القرآن أهل الله وخاصته<(1) خاصته: يعنى اختصهم من الناس واصطفاهم ونسبهم إليه، وليس المعنى من يحفظونه ويستظهرونه استظهار ذهن بلا قلب، فحفظ القرآن نوعان: الحفظ الذهني في الذاكرة، والحفظ القلبي في القلب، وذلك لمن يحفظه محبة، ويحفظ حدوده ورسومه، ويرعى أوامره ونواهيه، والقائم بذلك حافظ سواء حفظه عن ظهر قلب أو قرأه في المصحف، يكون من أهل القرآن إن شاء الله، ويكون من الذين يقول لهم المولى جل وعلا يوم القيامة اقرأ وارتق: >يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها<(2) اقرأ واصعد في درجات الجنة، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها أي في الدنيا.
مفهوم الحمد ومقتضياته
مما ينبغي للمؤمن أن يستحضره في سيره إلى الله عز وجل – سيره الدائم حتى فناء عمره -وأن يشتغل به اشتغالا دائما، ليل نهار لا يفتر: الحمد، الحمد لله رب العالمين، هذا المعنى العظيم، هذا المفهوم الكبير من مفاهيم العبادة -مفهوم الحمد- وهذا شيء ضروري للمؤمن أن يفهمه أولا، ثم أن يشتغل به ثانيا، لأن كثيرا من الناس يشتغل بالحمد لفظا لا معنى، بل يشتغل بنقيضه معنى، وإن اشتغل به لفظا. وبيان ذلك وتفسيره أن هناك كثير ممن يقول: الحمد لله ويشتغل بالحمد باللسان، من ذلك صلاته فهو يقرأ الحمد لله رب العالمين “أم القرآن” و”فاتحة الكتاب” في كل صلاة، ويشتغل بذلك عند نهاية طعامه، وعند حصوله على نعمة ما، إلى غير ذلك مما قد يشتغل به، وقد يستعمل ذلك على سبيل اللغو: يعنى أنه قد يقول هذه الكلمة دون إدراك معناها، وهذا يحصل كثيرا، ولكن هذا لا يكفي، لا أقول لا يكفي وحسب، بل هذا فيه نوع من قلة الأدب مع رب العالمين، وذلك إذا كان بالمعنى الذي ذكرت: أي إذا كان فعله وشعوره يشتغل بعكس المعنى، بعني أنه لا يحمد الله عز وجل من الناحية العملية، فهو يحمده باللسان فقط أما بالعمل فلا، ولبيان هذا المعنى – لأنه معنى دقيق جدا- نمثل له بمثال آخر في سياق آخر يشبهه، وليس هو إياه، ولكن يقرب لنا الفهم كالصبر.
نموذج توضيحي من مفهوم الصبر
مثلا : كثير من الناس يزعم أنه يصبر ،الصبر مطلوب {و َاصْبِرْ : وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِالله ْ}(النحل :127)، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إلاَّ عَلَى الخاشِعِينْ}(البقرة:44).
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث :>إنما الصبر عند الصدمة الأولى<(3)، >ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب<(4)، إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والحديثية، فتجد الإنسان يعرف هذه الآيات والأحاديث ويرددها، ويمتلك هذه المعاني شكلا، ويمكن أن يقول: أنا أصبر ، ولكن من الناحية العملية حينما تصدمه المصائب – عافانا الله وإياكم- لأن المؤمن يسأل الله العافية والسلامة، فإذا حصل الابتلاء، وجب أن يكون من الصابرين، ففي بعض الأحيان، نجد الإنسان المؤمن يتكلم عن الصبر، ولكن لما يبتلى يشعر بالإحباط في نفسه، وباليأس في إحساسه وشعوره، ويقع له نوع من الاضطراب في نفسه والارتباك في حياته، هذا ليس بصبر، الصبر هو القدرة على امتصاص المشاكل بحيث يحس وكأن شيئا لم يقع، مثلا: شخص له مشاكل مع الناس في عمل من الأعمال أو شغل من الأشغال، ويقول أنا أصبر، ويحسب صبره في كونه لا يرد على الناس، هذه رتبة جيدة، لأنه لا يرد على المسيء إليه بإساءة مثلها، ولا يقابل الشر بالشر فهو يصبر، لكن بسبب ذلك أصيب بمرض السكري لا قدر الله، فيقول: تسبب الناس لي في داء السكري، إذن هذا ليس بصبر، لأن الصبر لا يعني أن لا تطلق البارود على غيرك وتطلقه على نفسك، بل الصبر هو القدرة على امتصاص الغضب، وامتصاص المشاكل، فلا تحس بداخلك أن المشكلة مشكلة، الصبر حينما تستطيع أن تفوض أمرك إلى الله وتحس بالراحة من الداخل في باطنك، هذا الصبر يتحقق عندما تكون المشكلة كيفما كانت، وأنت ثابت لا تتزلزل: أقصد الثبات الوجداني من داخلك، إذ يكون عندكإحساس بالأمان وبالسلام، وبأن الذي فعله الله هو الخير، وما فيه إلا الخير، فأنت مرتاح لذلك الخير، وتسأل الله عز وجل أن يعينك على تحمل الأذى، وذلك بأن يمنحك قدرة وجدانية نفسية داخلية لكي تتعامل مع الأذى كأنه شيء عادي، هذا هو الصبر الحقيقي، وضده الجزع، فعندما لا يتحمل الإنسان المشكل يحصل له جزع داخلي، والجزع له مظاهر فهناك من يظهر جزعه في كلامه، فيصرخ ويصيح! وهذا أسلوب من أساليب راحته، كي يفرج عن نفسه، وهناك من يجزع كثيرا ولا يعلم به أحد من الناس، ولكن الذي يتأثر لحاله وجزعه هو نفسه وقلبه وصحته وأعصابه، ولذلك فهو يتمزق داخليا، وما هذا بصابر، وليس هذا بصبر، لأن الصبر هو أن تحس بالارتياح، والارتياح شيء عظيم جدا، صحيح أن الإنسان عند الابتلاء يحس بصدمة البلاء ولكن تكون له القدرة لتصريف ذلك، وتحويله من جهة اعتقاد الشر إلى جهة اعتقاد الخير.
مقتضيات الحمد لله وتجلياته
كذلك الأمر فيما يتعلق بالحمد ، فكثير من الناس يقولون نحن حامدون لله وشاكرون له، وما هم كذلك، لأنهم لم يحمدوه بإحساسهم، ووجدانهم وفعالهم، فوجب إذن أن نعرف الحمد ونفهم معناه، لأنه صلاتنا، فصلاتنا حمد، وسورة الفاتحة اسمها الحمد >لا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد<(5) وأم القرآن أو الفاتحة تدور على حمد الله رب العالمين، ومن هنا أحببت أن أتحدث عن هذا المفهوم متدبرا لكتاب الله عز وجل أو نتعاون جميعا على تدبر كتاب الله ، فمن تدبر حق التدبر أبصر إبصارا لآية الحمد، ونحن نحاول إبصار هذه الآيات، وهذا أهم شيء في تعاملنا مع كتاب الله عز وجل، هذه السورة التي نقرؤها كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، إما أننا نقرأها بأنفسنا، أو تُقرأ علينا مع الإمام، فإننا إذن نسير بها إلى الله عز وجل، و الحمد هو من بين وسائل السير إلى الله عز وجل، ومن بين وسائل العبادة الأساسية، بل أساس العبادة قائم على الحمد، والحمد أدب مع الله عز وجل واعتراف لله بالربوبية. والنبي صلى الله عليه وسلم كلما أراد أن يدعو ربه أو أن يخطب الناس إلا واستفتح بالحمد، وكان يُعَلِّم صلى الله عليه وسلم الصحابة والمسلمين بعدهم صلاة الحاجة، فكان يبدأ بحمد الله والثناء عليه، وذلك يقع بلفظ الحمد وبكل ما فيه معنى التمجيد لله والاعتراف بوحدانيته، فقولك مثلا: “لا إله إلا الله “حمد ، وليس “الحمد لله رب العالمين” فقط هي المتضمنة للحمد. صحيح “الحمد لله” هي أجمع الألفاظ للحمد، ولكن معنى الحمد موجود في كل عبارات التسبيح والتفريد والتوحيد والتمجيد، فـ”سبحان الله” فيها معنى الحمد، و”لا إله إلا الله” فيها معنى الحمد، وفي كل عبارات الثناء على الله عز وجل يوجد معنى الحمد لله، والحمد يجمع الشكر والثناء، فهي لفظة جامعة، الشكر يكون على الفعال، والثناء يكون على الصفات، إذا أعجبك أحد المناظرالجميلة كيفما كان – من أمور الطبيعة أو الناس أو أي شيء آخر- لن تقول له شكرا، لأن منطق اللغة يرفض ذلك، والعقل لا يقبله، والذي تقوله حينها : هو أن تذكر جماله وصفاته الجميلة، هذا يسمى ثناء، تثني على الجمال والجلال.
ولكن عندما يسدي إليك من أثنيت عليه خيرا، فأنت تقول له: “شكرا”، فالشكر يكون لمن صنع إليك معروفا وقدم إليك خيرا، فتقول له: “شكرا” أي تشكره، ولكن من لم يقدم لك خيرا ولا شرا، وإنما أعجبك منظره وذكرته بكلام حسن، فهذا يسمى ثناء. فنحن المسلمين نثني على الله عز وجل لأنه جميل سبحانه وتعالى، ففي الحديث الصحيح: >إن الله جميل يحب الجمال<(6)، وفي حديث آخر: >ويحب معالي الأمور ويكره سفسافها<(7) أي يكره الأخلاق الساقطة ، فهو أهل للثناء ،كما في الحديث الصحيح >أهل الثناء والمجد<(8)، وهو سبحانه بجماله وعظيم سلطانه وجلاله ، من عرفه من خلقه يثني عليه، أي من عرف هاتهالصفات الجميلة والجليلة في الله، يثنى عليه بما هو أهله سبحانه وتعالى. والإنسان مفطور على أن يثني على الشيء الجميل، اللهم إلا إن كان هذا الإنسان غير عادي، أو مريض عنده عقدة نفسية، فهذا شيء آخر، ولذلك الحسد لا يكون إلا مرضا ،أما الغبطة فأمر حسن، بأن تغبط أخاك المسلم على سلوكه، وعلى ما أنعم الله عليه ، وهذا هو الأصل في الإنسان وخاصة المؤمن المسلم. فلذلك إذا أثنينا على الله عز وجل بما له من جمال وجلال وسلطان وملك وعظمة وكبرياء سبحانه وتعالى، فذلك الثناء يعنى أن نذكره بصفاته الحميدة سبحانه وتعالى، لكن إذا شعرت بالنعمة ، إذ لم تكن من قبل شيئا مذكورا، ثم كنت، فالخلق والإيجاد نعمة أعطاها لك، ثم كنت لا تقدر على شيء، وقواك، فقد خرجت من بطن أمك ضعيفا ثم أتاك بالقوة من عنده سبحانه وتعالى، كنت فقيرا فأغناك، كنت مريضا وشفاك، كنت محتاجا وأعطاك، ينبغي أن تقول:”شكرا” وهذاشكر. الحمد يجمعهما معا، فإذا حمدت الله فقد أثنيت عليه وشكرته، شيء عظيم جدا، فأنت حينما تقول: الحمد لله رب العالمين، معناه أنك تثني عليه بجماله وجلاله بما هو أهله ثم تذكر أنه خلقك وأعطاك وأنعم عليك إلى غير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى، فتكون من الحامدين، والحمد أعلى درجة من الشكر ولذلك قال الله عز وجل:{قُلْ الْحَمْدُ لِلِّه وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}(النمل 61)، الحمد له عز وجل بما استحق من حيث أنه جميل جليل، وبما فعل وأعطى لعبيده المخلوقين ، فنحن نثنى عليه ونشكره. فمن لا يثنى على الله ولا يشكره، أي لا يحمد الله، فهو أحد اثنين: إما أنه إنسان شرير تسدي إليه الخير ويرده لك شرا، ولأن الله أعطاه الخيرات وهو يقابل ذلك شرا، فهذا شرير. وهناك احتمال آخر أنه ضال لا يعرف ربه، فاليهود المغضوب عليهم سمعوا وعصوا، وقالوا سمعنا وعصينا، والنصارى ضلوا، ما عرفوا الله وما قدروا الله حق قدره، ما عرفوه سبحانه وتعالى. ومن نعم الله عز وجل على المسلم أن أنزل إليه كتابا يعرفه بربه، فالمعرفة بالله تتم من خلال كتاب الله، ولن تجدها في غيره البتة، فمن أراد أن يعرف ربه حق المعرفة، عليه بالقرآن الكريم، ففيه تعريف بالله: بجلاله وجماله وحميد فعاله سبحانه وتعالى. فإذا كان أحد المسلمين لا يشكر الله ولا يثنى عليه، أي لا يحمد الله، فمعناه أنه جاهل بالله مع الأسف، يحتاج إذن ليجد معنى الشكر ومعنى الثناء أو معنى الحمد أن يتعرف على مولاه الذي خلقه، لأنك إن عرفته وأنت مؤمن به ستجد رغبة جامحة في حمده، ليس باللسان فحسب، بل بالقلب والجنان قبل أن يكون ذلك باللسان، لكن كيف يكون الحمد بالقلب؟ نترك الجواب للحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
د. فــريــد الأنـصـاري رحمه الله تعالى
—–
1 - الحديث عن علي بن أبي طالب رضي لله عنه<( وصححه الألباني في صحيح الجامع <(الصفحة أو الرقم: 2528 .
2 - الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم : 2914 . و في غيره .
3- الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه < وصححه الألباني في صحيح أبي داوود، الصفحة أو الرقم 3124 . وفي صحيح ابن ماجة ، الصفحة أو الرقم 1307 .
4 – متفق عليه< البخاري 6114. مسلم 2609. عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 - عن أبي سيد الخدري رضي الله عنه ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي صفحة أو رقم 238<( ونصه :” مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ، ولا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة ، في فريضة أو غيرها”
6 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ورواه مسلم في صحيحه صفحة أو رقم 91 . ونص الحديث هو: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر . قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة . قال : إن الله جميليحب الجمال . الكبر بطر الحق وغمط الناس.
7 – صححه الشيخ الألباني في صفة الفتوى صفحة أو رقم 93.
8 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه مسلم في صحيحه صفحة أو رقم : 477 و نصه:” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال ” ربنا لك الحمد . ملء السماوات والأرض . وملء ما شئت من شيء بعد . أهل الثناء والمجد . أحق ما قال العبد . وكلنا لك عبد : اللهم ! لا مانع لما أعطيت . ولا معطي لما منعت . ولا ينفع ذا الجد منك الجد “