إن الإعلام عندما يصبحُ مسخرا لخدمة شخْص بعينه، أو أشخاصٍ بأعيانهم، أو حزْبٍ بعينه، أو طائفةٍ بعينها.. يُصبحُ في غاية الانحطاط والإسفاف، لأنه لا يخْدمُ قضية من قضايا الشعوب الكُبرى التي تعمل على رفع قدرها، وإثبات وجُودها.
ويزدادُ سفالةً عندما يصبح مَلْهاةً للشعوب، مفسَدَةً لأخلاقها واهتماماتها.
مثل الضحكِ على الشعوب بيَوم عالمي لمحاربة المخدرات وكبارُ القَوم بها يثْرَوْن.
ويومٍ عالميٍّ لمحاربة الرشوة وكبارُ القوم بها تَنْتَفِخُ جيوبهم.
ويوم عالمي لمحاربة السيدا وهُمْ يشجِّعون الزنا بالْعَوَازل الطبية، وسَدِّ أبواب الزواج، وفتْح أبواب العُهْر السِّياحيِّ والتجاريِّ.
ويوم عالميٍّ لإعلان حقوق الإنسان وهُمْ يقتُلُون كرامة الإنسان في تقْييد حرِّيَّته، وانتهاك حُرُماته، وحرمات بلاده، وحرمات دينه، وإنْهَاكِ قدْراتِهِ وطاقاته ومواهبه، وتسليط زَبَانية المتَسَلِّطين عليه، إلى غير ذلك من الأيام والشعارات الكاذبة المهترئة.
فإذا أُضيف إلى ذلك ما تمتلئُ به الفضائياتُ الإعلامية من أفْلاَم الخلاعة والمجون، وغِنَاء الغرائز المؤدَّى بمظاهر العُرْي وأشكال النداء الصارخ للغريزة الجنسية،… عرفتَ هِمَّةَ المخطِّطين الكبار أيْنَ هي مُحَلِّقَة، وعرَفْت ما يُضْمرُهُ المتحكمون في الشعوب للشعوب!!!
أمَّا قائمةُ الموسيقى الروحية، وعيد الأم، وعيد الحُبِّ، وعيد الورْد، واختيار ملكات الجمال، وحوار الحضارات، وحوار الأديان، وعيد المرأة…فَحدِّثْ ولا حَرَجَ عن استهلاك الأوقات والطاقات في الفراغ، وتبذير الأموال الطائلة فيما لا يعودُ على الشعوب والأمَّة بأيِّ رِبْحٍ لا ما ديٍّ ولا معنويٍّ، بل كُلُّه خسارة ماديَّة ومعنويَّة.
ونمـوذجٌ سـيء للتحليل الهابط:
ومهما كان للإعلام من أثر فعال في الزَّمن القديم، إلا أنه لا يقاس بشيء بالنسبة لما توفَّرَ له من الوسائل المتعددة الأنواع في العصر الحاضر، ويكفي دليلا على ذلك ما شيَّع به الصحفيُّ مُنْتَظر الزيدي زعيم النظام العالمي الجديد البَائد، حيث شَيَّعَهُ ووَدَّعَهُ بضَرْبَتَيْن من فَرْدَتَي حِذائه، لم تُصيبَاه، ولكن الخطأ كان أحسن وأفْعَلَ من الإصابة.
فالحادثةُ وقعت في العراق، ولكن تناقلتْها مُختلف الإذاعات والفضائيات، بحيث رآها الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والمحِبُّ والكاره، فكان تَشْييعاً وتوديعاً خالداً في التاريخ، مَهْمَا قال فيه المهزُومُون.
والأغرَبُ من ذلك أن إحدى المحطات الفضائية ناقشتْ الحدث، وفتَحَتْ النقاش فيه بيْن المفكرين، فكان أكثرُ المناقِشين مؤيِّدين لمنتظر الزيدي، ومُصَوِّبين لفعلته على أساسِ أن المشيَّع جاء مُخْتَفياً مُـتلَصِّصاً كالسَّارق ليسْرق شيئا من الأضواء الفاشلة في آخر حياته، وعلى أساس أن اللصَّ السارق للأضواء ما استَحْيَا من تاريخه الطويل في ما أحْدثَه من المآسي للإنسانية التي تركها ممزَّقَةً شذرَ مَذَر، وبناءً على ذلك فقد كان ذلك الوداعُ هو الجوابَ المناسبَ.
إلا أن أحَدَ المتدخلين تظاهر بالعقلانية، وحكم على فعله بالعاطفة الخالية من العقل، إذ كان بإمكانه أن ينتقِده بقلمِه بدَلَ حذائه، متَنَاسياً هذا المسكين أن ثمان سنواتٍ من النقد العلميِّ والإعلاميِّ والعقلانيِّ لَمْ تؤثِّر شيئا، فكانت تصرُّفاتُه كلها خلال الثماني سنواتٍ خاليةً من شيء بسيط من العقل.
فالتدخُّل في العراق كان بدون عقل.
والتدخل في أفغانستان كان بدون عقل.
والتدخل في السودان كان بدون عقل.
والتدخل في الصومال كان بدون عقل.
والتدخل في أوروبا الشرقية كان بدون عقل، والعمل على دفْنِ القضية الفلسطينية كان وما زال بدون عقل.
واحتكارُ الطاقة النووية السلمية هو بدون عقل.
وابتلاعُ ثروات الدول البترولية عن طريق تصدير سلاح لها لا حاجة لها به، ولا تعرف كيف تستعمله، وليْسَ لها عَدُوٌّ تحاربه به، وإعلان الحرب على الإسلام بدون هوادة، كُلُّ ذلك، وغيره كان بدون عقل، بل كان هو الحمق الكبير الذي جَلَب له ما جَلَبَ، لأن للإسلام رَباًّ يحميه، وللمسلمين ربّاً يحميهم.
فكيف يُتصرَّفُ مَعَ الذي سيُسجِّلُهُ التاريخ في خانةِ المُتَربِّبينَ بدون رُبُوبيَّة، والمُتألِّهين بدون ألوهية، والمتطاولين على الله عز وجل في مُلكه وخَلْقه؟! فلا يُذْكَرُ إلا كنقطة سَوْداءَ في تاريخ الإنسانية العاقلة!!!
وكانت الحجة الوحيدة التي أدلى بها هذا المتعاقل هي أن هذه الضَّرْبة ماذا فَعَلَتْ للعراق؟! ماذا فَعَلَتْ لفلسطين؟! ماذا فعلت للعرب؟! ماذا فعلتْ للإنسانيَّة؟!
وهذا التساؤل يدلُّ على السخافة السخيفة، إذْ سُنَّةُ الله تعالى في كُلِّ شيء التدَرُّجُ، فالنارُ تكون شرارة ثم تُصبحُ حريقاً، والطفلُ يكون صغيرا ثم يصبحُ رجلا عاقلا عظيما، والشعوب تكون بليدة غافلة، ثم تُصبح في يوم من الأيام ثائرة هَدَّارة.
فغاندي -الزعيم الهندي المشهور- عندما قال للهنود : “لوْ كُنْتُمْ مُجَرَّدَ ضفادع وهَجَمْتُمْ عَلَى بْرِيطَانْياَ لأَخْرَجْتُمُوها مِنْ بلاَدِكُمْ” فكم احتاجت هذه الكلمة من الوقت والتأمُّل لتَتَحَوَّل إلى شَعْب ثائر يُخْرجُ البريطانيين بدون حَرْب ولا سلاح، ولكن بمجرَّد المقاطعة الاقتصادية؟!
وشكيب أرْسَلان عندما كتب كتابَه الصغير : >لِمَاذا تَأَخَّرَ المُسْلِمُونَ وتقَدَّمَ غَيرُهُم< كَمْ احتاجَ من زمَنٍ ليُقْرَأ ويسْتَوْعبَ، وتُنْشأ على إثره أحزابٌ وجمعياتٌ وعلماءُ فَطاَحِلُ أخْرَجُوا الاستعمار وغيَّرُوا الأرْضَ غَيْرَ الأرض!!!
وجمال الدين الأفغاني كم احتاج من جَوْلات وعَذَابات ومِحَنٍ لإيقاظ الشرق من غفلته؟! فكانت نتيجة ذلك صحْوات علمية، وفكرية، وسياسية، واجتماعية، قلبتْ الشرق رأساً على عقب؟!
وعلال بن عبد الله الثائر المغربي عندما هاجَمَ ابن عَرَفَةَ -الملك المزيَّف للمغاربة في عزِّ أيامه الكاذبة- ما ذا كانت نتيجة ذلك؟! ألم تتأسَّسْ قواتُ الفِداء والتحرير التي تجرأتْ جرأةً غير معهودة على المستعمر الفرنسي حتى أُخرج ذليلا خاسئا لَوْلا ربَائبُهُ الذين خلفوه ليمتصوا دماء الشعوب وعُرُوقَها؟!
وهكذا فعْلَةُ منتظر الزيدي سيكون لها مفعول في المستقبل المنْظُور، أو المستقبل البعيد!!!
بَلْ من العجَب العُجاب أنه لَمْ تكد تمر سنةٌ على فعلته حتى خرج واحدٌ -قيل إنه من المهووسين- فهشَّمَ أَنْفَ بْرليسْكُوني زعيم إيطاليا – اضطر معها إلى الاحْتجاَبِ مدَّة للعلاج!! بل أكثر من ذلك أيضا، خرجت امرأة من صفِّ المحتفلين بالبابا فقَفَزَتْ في سُرْعة البرق على البابا وأسقطته أرضاً وسط الجماهير المقدسة لَهُ، وقيل أيضا إنها مهْوُوسة!!!