منزلة التوبة 1


حقيقة التوبة

المؤمن لا يتوب إلا إذا كان يقظا، واليقظة هي المقام السابق على التوبة، ولا يتوب إلا مستيقظ، وأما من بقي غافلاً نائماً في طبقة من طبقات نومه، فإنه لا يتوب إلا أن يشاء الله له يقظة تُخرجُه من غفلته وضلاله وضياعه، ثم يقول كما قال نبي الله يونس \ {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}(الأنبياء : 87)، أما الآن فنتحدث عن مُكَمِّلٍ لهذا المعنى، وهو حقيقة التوبة، وقد سبق أن تحدث العلماء عن التوبة من حيث أركانها العلمية، وليس غرضنا اليوم أن نتحدث عن هذا، فمثله موجود في كل المُصنَّفَاتِ المبسِّطة للتوبة، ولمنازل الإيمان، أعني قولَهم : >أول التوبة أن يُقلِعَ العبد عن الذنب ويندَمَ عما فات ويستعد لما هو آت<، أي بتجديد النية والعزم على الفلاح والصلاح، إنما الأساس من كل هذا؛ لأننا نعلم أننا نعلم وأن غيرنا يعلم هذه الأمور ثم لا نتوب، كثير من الناس يحفظون، بأن التوبة لابد لها من الإقلاع، ولابد من الندم، ولابد من العزم، هذا شيء يعرفه الناس، ومنهم من يستظهره ويرجعه إلى مصادره، مع ذلك هو قليل التوبة، وقد عُلِم وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعَدُّ له أكثر من مائة مرة في اليوم يقول >أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه<(عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور<(رواه  أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح))، فكان يكثر من التوبة، وما كان أكثر توبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ من العالَمين، وقد ثبت عنه : >أما وإني أَعْبَدُكُم لله وأتقاكم له<(البخاري ومسلم)، ولا يكون الأعبد، ولا يكون الأتقى إلا توّاباً، كثير التوب، كثير الأوب إلى الله سبحانه وتعالى، إذن ما حقيقة التوبة التي تقع بالنفس؟ لأن التوبة ليست فكرة ولا قاعدة، وإنما التوبة إحساس وشعور يخالج قلب العبد، ويخالط بشاشة وجدانه، هذه هي التوبة.

كيف يمكن للمرء أن يكتسب هذا المعنى؟ التوبة معنى، وإحساس، وشعور، ووجدان، فلا يتوب إلا خائف، والخوف إحساس وجداني، “الذي لا يخاف لا يتوب”، فإذن : “الذي يخاف هو من يتوب”، فما هو الخوف؟ الخوف شعور يقع بالقلب، ألا ترى أن الخائف ينبض قلبه ويرتجف ويضطرب؟ الذي يخاف يفزع في أمور الدنيا وأمور الآخرة، تلاحظ أنه تقع له رجَّة، {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}(الحج : 35) والوَجَلُ هو الخوف الشديد، إذن إذا كان الخوف إحساساً وشعوراً وِجدانيّاً، فالتوبة لا تكون إلا كذلك؛ لأن الذي لا يخاف لا يتوب، ثم التوبة، إحساس بالحنين، وهذا المعنى لا يكون إلا للذي له عاطفة من المحبة لشيء ما، فيشتاقَ إليه ويَحِنَّ إليه، فإذا لم يكن له هذا المعنى لم يستطع تحصيل التوبة، والسبب في أنّا لا نتوب هو أننا لا ندرك ما بقلوبنا من قساوة تجعل المرء لا يُحِسُّ لا بالشر ولا بالخوف، فنحتاج إذن أولاً لغسل هذه القلوب مما عَلِقَ بها من القساوة والجفاء والجفاف، فهي تحتاج إلى ريّ من ماء القرآن، ومن كوثر الإيمان، عسى أن يستيقظ القلب ويشعر أنه إنسان، لو شعر العبد فعلا أنه إنسان لحصلت له توبة بإذن الله، لِمَ؟ لأنه يعرف أن الإنسان خَاسِرٌ إلا أن يتغمده الله برحمته {إن الانسان لفي خسر}(العصر)، ويعلم أن الإنسان محاسَبٌ لتحمله الأمانة {وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا}(الأحزاب : 72) ويعلم أن الإنسان مطالَب بالإيمان من حيث هو مخلوق لخالق واحد {قُتِل الانسان ما أكفره من اي شيء خلقه}(عبس : 17).

فإذن الإنسان محكوم ومشدود بالأغلال من عنقه، {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}(ق : 16) مشدود بأغلال القضاء والقدر من أوردته ومن عنقه، إذن التوبة في المعرفة الربانية التي نحن اليوم في حاجة إليها، ما نحن محتاجين إليه هو التوبة بالمعنى المعرفي، بما ذكره أهل العرفان العارفون بالله حقاً وصدقاً، حاشى المشعوذين، العارفون بالله الذين عرفوا مقام ربهم، فإذن كي نعرف وليس نعلم فقط، العلم شرط وبه نبدأ وإنما نتم أمرنا بمعرفة ما نعلم، كثير منا يعلم ولكنه لا يعرف ما يعلم، ولذلك كَمْ مِن عالِمٍ عالم يُحصي لك أطنانا وقناطير من العلم، لكن غيابَ المعرفة عن قلبه تجعله، جاهلا بالله من حيث مقامُه، أي من حيث المقام الرباني العظيم، {وأما من خاف مقام ربه}(النازعات : 40) وجُعل المفعول به هنا هو مقام الرب، لأن الناس لا تُلْقِي لربها بالاً، ولا تجعل لمولاها مقاماً ولو أدرك الإنسان حقّاً مقام الرب العظيم، لخَشِيَه ولخافه.

كيفية تحصيل التوبة ا لحقيقية

1-  التوبة تحصل بالاستيحاش أولا :

أول المعارف للتوبة بالمعنى العرفاني، الاستيحاش، وهنا سنبدأ بإذن الله عز وجل في تفصيل كيفية تحصيل التوبة الحقيقية، التوبة النصوح كما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تحصل أولاً بالاستيحاش، الاستيحاش من الوحشة، يعني أن الإنسان يحسّ بالغربة، وكيف يحسّ بالغربة؟

لا يشعر بها ولا يدرك حقيقتها إلا إذا تفكر وتدبَّر، ما تيسر له من القرآن الكريم، يتأمل فيه، ويتفكر في خلق السماوات والأرض، فلو تفكر الإنسان حَقَّ التفكر في نفسه أولاً، {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(الذاريات : 21)، ثم تفكر في خلق السماوات والأرض لأدرك أنه غريب في هذه الأرض، ويُحِسُّ حينئذ، رغم أن الأرض واسعة، بالضيق، وبالحرج، وبالشدة، لِمَ؟ لأنه أدرك أن مُقَامَه في الأرض قليل، قليل، جد قليل، فكلّ شيء فيه عدّ لا طول له، أي شيء يحسب بالحساب يبدأ بواحد اثنين ثلاثة ليس فيه الطول؛ لأن كونه يحسب فهذا يعني أنه سوف ينتهي، لا يوجد في الكون شيء يُحسَب ولا ينتهي، إطلاقا، الله عز وجل ذو الجلال لا يتجزأ، سبحانه وتعالى، ولذلك كان هو الأول والآخر، ليس فيه اثنين، ثلاثة، هو واحد، تبدأ به واحدا وتنتهي به واحداَ، سبحانه وتعالى؛ ولذلك لا ينتهي سبحانه، وما دونه يُعَدُّ عدّا، ويحصى إحصاء، الزمان، الأيام، الأجرام، السماوات، كل شيء محسوب، السماوات سبع، الأرضون سبع، الأيام معدودة، الزمان، كل الزمان.

ما هو الزمان؟ هو عد، واحد اثنين ثلاثة… دقيقة، ثانية، ساعة، يوم، أيام، أشهر، سنوات، قرون… كله عدّ، فأي شيء يُعدّ ويُحصَى إلاّ وينتهي.

2-  معرفة الحياة الحقيقية :

إذن حقيقة الإنسان أنه فان، منتهي، إذا كان الأمر هكذا، فلا يبقى للإنسان حقا إلا الذي قدَّمَه لحيث لا ينتهي، يعني : حقيقة الإنسان الباقية هي ما بعد موته، الحياة الحقيقية إنما تبدأ بعد الموت، {يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى}(الفجر : 23)، {يقول يا ليتني قدمت لحياتي}(الفجر : 24)، وهذا من ألطف التعابير القرآنية وأَدَقِّهَا وأعجَبِها، هذا الإنسان الآن يتكلم، متى؟ الكلام في سياق هذه الآية جاء بعد موت الإنسان، فالإنسان مات وجاء الحِساب، بدأ يقول {يا ليتني قدمت لحياتي}، ما حياته؟ هي تلك اللحظة التي هو فيها، أما الحياة الدنيا التي عاشها لم يسمها حياة، فـ{قدمت لحياتي} ليست هي الدنيا، لا، بل الآخرة، هي التي سماها حياة، وهي التي ينبغي أن يُقَدِّمَ لها الإنسان، إذن حينما يكون الأمر هكذا {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}(العنكبوت : 24)، الحيوان على وزن فَعَلاَن تفيد الامتلاء والفيض، هذا المعنى لـ فَعَلاَن في العربية، ما عَمُرَ وفَاضَ، كسكران، وغضبان، يقول الفقهاء في الحديث، الذي جعل قاعدة >لا يقضي القاضي وهو غضبان<، فرق بين غَاضِب وغَضْبَان، “غَاضِب” يمكن له أن يقضي وهو غاضب؛ غاضب، اسم فاعل قام بفعل وهو متَحَكِّمٌ فيه؛ لأنه فاعل، والفاعل يتحكم في الفعل؛ لأنه من فعله، أما إذا كان غضباناً، حتى الفاعل لم يبق، الغضب نفسه أصبح هو الفاعل، فَغَضِبَ… حتى فاض عليه الغضب، فإذا فاض الغضب صار الفاعل مفعولا، من كان غاضِباً أصبح محكوماً عليه بالغضب، فلا يُدرِك بعد ذلك ما يفعل، لا يَصْلُحُ لا للقضاء، ولا للفتوى، ولا للحلِّ، ولا للعقد، >فيضان<، لما نقول : النهر فائض، عمر وفاض قليلا، أما فيضان فيكتسح كل شيء، ويجر الأخضر واليابس، والبهائم والإنسان، والدور والبنيان، صيغة تدل على الامتلاء والفيض، كالسكران؛ يعني شَرِبَ الخمر والعياذ بالله حتى فقد عقله، تمام الفقدان، فهذا سكران وليس بساكر، ساكر درجة أقل؛ يعني شَرِبَ الخمرَ وبقي على وعيه، فهو ساكر، أما إن فَقَدَ وَعْيَهُ فهو سكران، انتهى أمره، لم يبق صالحا لأي شيء، لم يصلح لا للعادة، ولا للعبادة، فإذن {الحيوان} ليس هو البهيمة، {وإنالدار الآخرة لهي الحيوان}، هي الحياة الفائضة المتدفقة بالحياة، حياة حقيقية، وشعور الإنسان حينئذ بالحياة يكون قويا جدا، أما في الدنيا فليس هنا حيوان، إنما هنا حياة دنيا، “دنيا” يعني : قصيرة، شيء دنيّ، قريب، قريب جدا، تمد يدك وتدركه فهو دنيّ ووضيع، يقال لشيء في الأرض دني، رديء، وضيع، ليس له قيمة، ودنيا صفة المؤنث، فهي قريبة وليست لها قيمة، وضيعة، ولكن الدار الآخرة ليست هي الدنيا، وليست حياة فقط، بل هي حيوان، أي ممتلئة حياة، متدفقة حياة، تفيض بالحيوية، هذه الآخرة فعلا؛ ولذلك من بين الدلائل القوية على هذا المعنى أنه لا لذة في الدنيا إلا وتَصحَبُها غُصَّة ونغصة وحَزَن، لا توجد إطلاقا أي متعة في الدنيا لم يصحبها الألم والحُزن، لا وجود لها، إلا متعة واحدة هي متعة الإيمان، وسأبين -ليس بالكلام فقط- بحول الله، اللذاتُ جميعا بدءا بالطعام والشراب والجماع واللباس، ما شئت، وسبحان الله هذا!! مجرب، لمَّا تصل المتعة ذروتها، أو قمتها، يصيب الإنسان -سبحان الله العظيم بحيث لا يدري-، الغم، عندما يضحك كثيراً، يقول “هذا اليوم ضحكنا كثيراً فنسأل الله أن يعطينا خيرته”، هذا إحساس وجداني صحيح، من أين يأتي؟ يأتي من إحساس في وِجدان الإنسان أن ساعة الفرح تنتهي، والدليل على نهايتها هو أنها وصلت قمتها، وأي لذة سبحان الله العظيم! تبدأ صغيرة قليلة، وتبدأ تتمتع بها، وما دمت تزيد فيها فأنت تزيد في المتعة، وتخيل اللذة التي تريد من الأكل والشراب والطعام والجماع واللباس، “ما دمت مستمراً وأنت تتمتع” حتى تصل إلى قمة المتعة، عندها اعلم أنها سوف تبدأ في النزول، تبدأ تفقد لذتها، ونمثل بمثال بسيط جداً هو الأكل، خذ أكلة تشتهيها وعزيزة عليك ومدة طويلة ما أكلتها، سوف تشتهيها الآن، ولكن لما يوضع ذلك الطعام أو تلك الفاكهة، أو ما شئت من ألوان الملذات أمامك، سوف تأكل الطرف الأول منه فتحس بلذة جيدة، تزيد، فهي أجود، ثم تصل إلى القمة، يعني رأس لذتها، فتبدأ تنقص، تنقص… حتى تعيف هذا الطعام، وإذا بالغت مبالغة شديدة أُصِبْتَ بالتخمة، وتصبح متى قُدِّمَ لك ذلك الطعام تسدّ أنفك ولا تقدر على أكله، قبل دقائق كان ريقك يتسايل ويتساقط شوقا إليه، هذه طبيعة الحياة الدنيا، كل لذة بدايتها دليل على نهايتها، كيفما كانت هذه اللذة، لما تجلس مع الأحباب، والأصحاب، والأقرباء، والزوجات، والأولاد، وتحس بمتعة الأبوة أو متعة الزوجية في لحظات الصفاء التام، يخطر ببالك أن الدنيا جميلة، والأبناء جميلون، لو أننا لا نموت، ولا تحسّ -سبحان الله العظيم- بأنه سوف يأتي وقت ستغادر فيه الدنيا، وسيبكيك أطفالك أو تبكيهم، فكل شيء إذن بدايته هي نهايته.

3-  الدنيا في ميزان الله تعالى :

إذن هذه الدنيا في الحقيقة ليس لها قيمة، ولو كانت لها القيمة ما سقى الله فيها الكافر جرعة ماء، لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، روى مسلم عن جابر رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفتيه -أي جانبية- فمر بجدي ميت أسك -أي صغير الأذنين- فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال: >أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟

قالوا: ما نحب أنه لنا بشي وما نصنع به؟

قال: أتحبون أنه لكم؟

قالوا: والله لو كان حيا كان هذا أسك فكيف وهو ميت؟

فقال: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم<، إذا كرهتم هذه الجيفة فالدنيا أهون عند الله وأقبح عنده منها وهذا أمر صحيح؛ لأن الإنسان إذا تكالب على الدنيا ملكته، وإذا زَهِدَ فيها ملكها، كيف يملكها؟ يملكها تصرفاً، يعرف كيف يتصرف فيها، في قليلها أو في كثيرها، إذا أعطاه الله القليل يعرف كيف يتصرف فيه، وإذا أعطاه الكثير يعرف كيف يتصرف فيه، أما إن تكالب عليها، ملكته حينئذ، فإذا ملكته استخدمته وصرَّفَتْهُ في ماله فصار عبداً لدرهمه ودانقه وديناره، وحينئذ لا يتمتع بشيء منها، سبحان الله العظيم!! بل هي تتمتع به، وتوظفه فيها، إذا كان الأمر هكذا شعرَ الإنسان بالاستيحاش، الوحشة، ويبدأ يتمنى اللحظة التي يجد فيها نفسه مؤنساً، الوحشة تعني القنط، كإنسان أدركه الظلام في بلاد الغربة ولا يجد من يؤنس وحدته، ذلك  هو الاستيحاش، وهو الوحشة، حينما يدرك الإنسان حقيقة الدنيا يشعر بهذا، ولو كان بين أهله وأطفاله وخلانه، وبين ماله ومتاعه يشعر بالوحشة ويتمنى اللحظة التي يشعر فيها بالأنس، يحن حينئذ إلا الأنس، ولا يجدْ إلا في مقام الأنس، وهو منزلة من أعظم منازل الإيمان، ومقام الأنس لا يكون إلا للذي عرف ربه فأنس به سبحانه وتعالى حقيقة ويطرد الوحشة من قلبه، ولا يستوحش، أبداً، لماذا؟” لأنه رافق رَبّاً لا يغيب عنه ولا لحظة، فالله عز وجل، لا ينتهي، ليس كمتعة المال والأبناء، المتعة مع الله تعالى لا تنتهي، المتعة مع الله خالدة، فاللحظات الدنيوية التي تقطعها من الدنيا وتعطيها لله عز وجل تخرج من الزمن، لا يحسبها الزمن، ما دمت في أمور الدنيا الزمان يحتسب عليك، والأمر الذي يحتسب فيه الزمان ينتهي، أما حينما تقتطع لحظة من الدنيا وتعطيها لله في صلاة أو صيام، أو ذكر، أو شكر، أو بر، أو أي عمل، أو لحظة تكون مع الله فيها، تلك اللحظة لا تحسب بحساب الدنيا، وإنما تحسب بزمان الآخرة، وزمان الآخرة هو زمان الخلود، لا ينتهي، زمان الآخرة ممتد أبدا، فلذلك إذن يشعر الإنسان في اللحظات الإيمانية بالخلود، لا يشعر بالفناء الذي يشعر به أهل الدنيا، ومن هنا إذا  كانت التوبة إحساساً فعلاً بالاستيحاش والحنين إلى مثل هذه اللحظات وهذا الأمر لا يأتي لوحده، والأنس بالله لا يأتي لوحده، لابد من فتح الباب، اطرق الباب وافتح، ادخل على مولاك تجده يستقبلك -بإذن الله عز وجل- ببشاشة وبفرح، في رواية لمسلم قال صلى الله عليه وسلم : >لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح< كيف إذن تُطرق الباب؟ تطرق الباب بالاستذلال، الذلة هي ما نحتاج إليه، الذي لا يتوب إلى ربه في قلبه كِبْرٌ، متكبر ولو أنه لا يدري فهو متكبر داخليا، ومع أن الناس لا يعلمون فهو متكبر خفية وباطنا، يحتاج إذن إلى نزع الكِبْر، وإلى الدخول إلى باب الذلة والشعور بالتواضع والذلة والفقر إلى الله عز وجل.

وقفات مع سيد الاستغفار

تأملوا آيات وأحاديث التوبة كلها، أقتصر من ذلك كله على حديث النبي صلى الله عليه وسلمفي سيد الاستغفار، وهذه قمة التعابير النبوية في التوبة، >اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت<(رواه البخاري عن شداد بن أوس رضي الله عنه)، كلمات قلائل لكنها تعبر عن معنى عميق جداً، وطريق المعاني سهل لمن سهَّله الله عليه، لا نحتاج فيه إلى كثير قراءة ولكن نحتاج فيه للتواضع والرقة واللين لله عز وجل، وتأمل العبارات!! >اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت<؛ لأن الإنسان الذي يتوب إلى الله والذي لا يتوب إلى الله بينهم سور توحيد الله عز وجل بالمعنى ليس بالألفاظ، إن كل المسلمين يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكن القليل منهم يحس بها، مسألة إحساس، فلذلك كان العبد يقول >اللهم أنت ربي< الإحساس بأن الله هو مالك الكون وخالقه وسيده، هذا معنى الربوبية، ولأن الذي لا يتوب تجده حائراً ويظن أنه يعيش لنفسه ويفعل ما يشاء، فلا يجوز لك أيها العبد أن تتحرك حتى تستأذن مولاك، أيعطيك الإذن فيقول لك : افعل فتكون في المندوب أو الواجب أو المباح، أم يحظُرُ عليك الفعل ويقول لك : لا تفعل، فيكون الفعل حراما أو مكروها، فلما تحس بأنك مَرْبُوب وأن الله ربك ستستأذنه في كل شيء.

إذن الاعتراف بالربوبية هو اعتراف وجداني بالخالقية لله، والمخلوقية للعبد وأنك لست ملكاً لنفسك ولا تتصرف كما تشاء، عندما تنهض في الصباح من النوم وتجد يدك سليمة تتحرك، فهذه نعمة كبيرة، إنما أعطاك الله إياها لتستخدمها ذلك اليوم وسائر الأيام في طاعته، لا في معصيته، فبأي حق ربي كل يوم يصبِّحك تتحرك، وأنت تستعمل تلك النعمة في معصية مولاك، هذا ظلم ولذلك كان التعبير : >اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني<، لأن معنى الربوبية وحقيقتها هو أنك يا ربي أنت الذي خلقتني وأنا المخلوق ولو لم تخلقني لما كنت، >خلقتني وأنا عبدك<، بمقتضى الخالقية كنا عبيدا لك، لو لم يخلقنا لما استحق العبودية حينئذ، لكنه عز وجل خلق ولم يخلق أحدٌ غيره هو وحده من خلق، كل شيء، خالق كل شيء، لذلك له الحق في أن يُعبَد، واجب علينا أن نعبده، فمن خلق نفسَه ليعبد نفسه، ولكن إذا كنت توقن بأنك لم تخلق نفسك وإنما خلقك خالق فابحث عن هذا الخالق، ابحث عنه، واجب عليك أن تبحث عمن خلقك، انظر إلى بني آدم! سبحان الله! يوجد من قدَّر له الله عز وجل أن يَكْبُر دون أن يعرف أباه لسبب من الأسباب الاجتماعية، أو تاه عنه، فيبحث كثيراً عن أبيه سبحان الله!!  يرسل إلى الإذاعة، لا يترك صحفاً، لا يترك مجلات، يسأل الناس، يسأل من رباه، يسأل من أرضعه، علَّهُ يعرف أباه الذي لم يخلقه، ولكن كان سببا في خروجه إلى الدنيا فقط، فإذا كان البحث عن الأب غريزة في الإنسان، فمن باب الأولى والأحرى أن نبحث عن الذي خلقنا، والبحث عن الله هو الطريق المفضي إلى رضوان الله، من بحث عن الله يبحث عنه الله، ومن بحث عن الله يجده بالتأكيد، يمكن أن تبحث عن أبيك، وعن أخيك، وعن ابن عمك، وعن حبيبك، يمكن أن تجده ويمكن أن لا تجده، ولكن من بحث عن الله يجده المائة في المائة، ثلاثمائة في المائة، لماذا؟ لأن الله تعالى يريك ذاته سبحانه، لما يعرف بأن في نيتك البحث عنه، هو يريك “يناديك” تعال إلى هنا، أنا هنا -سبحانه وتعالى- لا يحصره مكان، ولا يحبسه زمان، هو فوق الزمان المكان سبحانه وتعالى.   قال أحد العارفين:

لقد وَضَحَ الطَّرِيقُ إليك قصْداً

فما أحد أرادك يستدل

فإن وَرَدَ الشتاءُ ففيك صيفٌ

وإن ورد المصيفُ ففيك ظلُّ

الطريق إلى الله واضح؟ لمن قصده، لقد وضح الطريق إليك قصداً، من قصد اللَّهَ وَضَح له الطريق، ولكن الذي ليست له نية، تتفرق به السبل، أما من استبطن نية الرب عز وجل والبحث عن الله، ستتضح له الطريق إلهاماً من الله.

لقد وَضَحَ الطَّرِيقُ إليك قصْداً

فما أحد أرادك يستدل

من أراد الله لا يحتاج إلى دليل، لماذا؟ لأن الدليل على الله هو الله نفسه سبحانه، لا يُستَدَلُّ عليه بمخلوقاته، لا يُستَدَلُّ على العظيمِ بالضعيف، وإنما يُستدَلُّ على الضعيف بالعظيم، الله تعالى هو الدليل على خلقه وليس الخلق دليلاً على الرب عز وجل، ميزانُ كثيرٍ من الناس مقلوب، يقولون الدليل على وجود الله هو وجود خلقه، لا، سبحانه، الخلقُ فان، فكيف يكون الفاني دليلاً على الباقي، وإنما الباقي -سبحانه- هو الدليل على الفاني، الوجود الحق إنما هو وجود الله سبحانه وتعالى، والمسألة تحتاج إلى تخليص القلب وتفريغه من كل ما سوى البحث عن الله، فما أحد أرادك يَسْتَدِلُّ، فإذن نحتاج إلى كثير من التواضع لله، وهذا معنى الحديث : >اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت<؛ لأن الإنسان حينما يُذنِب ويعرف الحقيقة وبأن الله هو الرب الخالق، يعرف بأنه نقض العهد الفطري الذي أخذه الله عز وجل على بني آدم في البدء الأول منذ خَلْقِ آدم \، وأخذه على جميع ذريته، {ألست بربكم؟ قالوا بلى}(الأعراف : 172)، إلى الغيب المطلق، فكان كل كافر وكل منافق وكل مسلم ضال ناقضا للعهد، أحبَّ أم كره، ولذلك قال -وهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم- >وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت<؛ لأن ابن آدم ضعيف يلتزم بالعهد وبالميثاق ولابد من أن يسقط، لابد يغلط،  >كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون<(رواه الترمذي وحسنه الألباني) وعليها نبحث، فإذا جدَّد الإنسان العهد مع الله، وحَّده بقلبه ووجدانه، وحنَّ إليه، وضاق بالوحشة، وحشة الدنيا ورغِب فيما عند الله وقصَدَه، هاهنا بيت القصيد مربط الفرس، فإذا قصده حقا وصدقا فذلك تجديد للعقد وللعهد >وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت<؛ لأن الإنسان حينئذ يدرك حقيقة أنه وقع في شرّ، وأن الذنب لزمه، فيحتاج إلى فرار إلى الله؛ لأن الاستعاذة فرار وهروب إلى الله، استعاذة طلب الحماية، مثاله أحدٌ يجري خلفك وأنت هارب خائف، تطلب أحداً قويّاً يحميك.

من يجري عليك؟ ذنوبك، فتستعيذ بالله وتحتمي به من ذنوبك، >أعوذ بك من شر ما صنعت< فما صنعتُ من ذنبٍ شرٌّ يلاحقني صباح مساء، يتبعني، يُقْلِقُ حياتي، يُحَطِّمُ أعصابي، تحتاج حينئذ إلى سكينة من الله، إلى سلامٍ من الله، إلى رضى من الله عز وجل، بمجرد شعورك بالرضى حينئذ تشعر بالأنس، وتشعر بالرحمة وتشعر بالسكينة والراحة التامة، والشعور بالبقاء، لا يساورك إحساس بالفناء، ويأتيك إحساس بالبقاء؛ لأنك اقتطعت من حياتك لحظات أخرجتها من الحياة الدنيا ووهبتها للآخرة، وكل موهوب للآخرة باق، أي حاجة أعطيت للآخرة باقية، لا تفنى، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما بقي منها ) قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: >بقيت كلها غير كتفها<(رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وقال حديث صحيح).، تدخل صلى الله عليه وسلم ليصحح التصور، قال لها : قولي : بقيت كلها؛ لأن ما أُكِلَ في الدنيا فان، الكتف الذي سنأكله لن يبقى، وما تصدقت به هو ما بقي، فمفهوم البقاء والفناء إنما علاقته بالزمان الأخروي، والزمان الدنيوي فان، والحاجة التي أُعطِيَت للزمان الدنيوي فنيت مع الزمان الدنيوي، والحاجة التي أُعطِيَت للزمان الأخروي، تبقى مع الزمان الأخروي، تبقى محفوظةً إلى الأبد.

>أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي<، البوء، من معاني الذِّلَّة التعبدية العظيمة، >أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت< حينما نقول باء بالشيء يبوء به، يعني تحمَّل جريرَتَه، يتحمل مسؤوليته، ولكن هذا المعنى غير كاف حتى يشرح لنا عبارة “البوء”، >أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي< بالإثنين، استعمل فيهما البوء، يعني “النعمة” الله تعالى هو الذي أعطانا إياها، و”الذنب” نحن غلطنا في حقه، تصور أحدا أسدى إليك خيرا كبيرا، إما أنقذك من مصيبة أو أعطاك خيراً كبيراً، فأنت غلطت في حقه، وذهبت تتهمه بتهمة كبيرة، ومن بعد اكتشفت بأنك غلطت، بأنه ليس هو، بل هو من فعل فيك الخير، أنذاك لا تعرف أين تُدِير  وجهك، هذا هو معنى البوء؛ لأن الله تعالى -وله المثل الأعلى- أعطاك حتى تَرُدَّ له، فتعطي له الذنوب، >أبوء لك بنعمتك عليك وأبوء بذنبي< أنت أنعمت علي، قدمت إلي خيراً كثيرا، نِعَماً لا تُحصى، وأنا أقدم لك يا ربي شرا، >أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي< هذا الإحساس هو منتهى الشعور بالذِّلَّة أمام الخالق سبحانه، لما يحس بأنه أحاطت به جميع الجدران وانسدت أمامه جميع السبل، مقيد، خاضع الخضوع التام، هذا معنى البوء، >أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي< ولذلك كان الأنبياء إذا تابوا خرُّوا راكعين وساجدين، {وخرَّ راكعا وأناب}(ص : 24)، {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخرَّ موسى صَعِقاً}(الأعراف : 143) تلك العبارة “خَرَّ، يَخِرُّ”، عفانا الله وإياكم لما تشاهد سوراَ عالياَ كبيراَ ينهار، ينزل نزلة واحدة، لا يتمالك، فهؤلاء الأنبياء كانوا يَخِرُّون لربهم، يخرون للأذقان، يعني أنه لم تبق لديه قدرة على الوقوف، يسقط راكعا، أو يسقط ساجدا لله الواحد  القهار، من أين أتى هذا؟ من الإحساس الموجود في قلبه من الذِّلَّة للواحد القهار.

خــلاصــة

خلاصة القول أن التوبة إنما تكون مَعْرِفةً بالله وبمقامه، وإحساساً بجلاله وجماله، فمن ذاق هذا وأدركَه، كانت التوبة أيسرَ عليه من أي شيء يسير، ومن لم يذقه حتى ولو جاء إلى المسجد وتاب وعاد فتوبته لا تكون توبة نصوحاً؛ لأن التوبة النصوح الحق إنما هي إحساس وشعور، وهذا ما أردت بيانه من حقيقة التوبة التي بابُها إنما بطرقِ باب الذِّلَّة والخضوع لله.

اللهم أرنا الحقّ حقّاً  وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين، واغفر لنا أجمعين.

وصل اللهم وبارك على سيد الخلق أجمعين.

——————

(ü) منزلة التوبة هي الحلقة الأولى من حلقات منازل الإيمان ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .

أعدها للنشر : عبد الحميد الرازي


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “منزلة التوبة