التهويد والتطبيع سلاحان لهدف  واحد


لم تمر الأمة طيلة تاريخها بأذل مما تمر به اليوم، فلم يؤثر فيها غزو المغول ولا غزو التتار، ولا أثر فيها فقد الأندلس وطرد المسلمين منها وتنصيب محاكم التفتيش ضدهم، ولم تؤثر فيها المرحلة الاستعماريةـ  وإن كان لذلك آثار سلبية حصل باجتماعها وتراكمها مع الزمن ما حصل من تراجع وتقهقر-غير أن الذي أثر في جسم الأمة اليوم هو استفحال ظاهرتي التهويد والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب ولا مقاوم إلا القلائل- وهم على قلتهم وضعفهم معادَوْن في أوطانهم ومبعدون عنهاـ

ولم يؤثر في الشعب الفلسطيني المقاوم كل الحروب وعمليات الإبادة والتهجير واقتطاع أجزاء من أرضه وتهويدها قسرا إذ لم يزده كل ذلك إلا ثقة بقضيته وإيمانا بها واستعدادا للاستشهاد في سبيل دينه وبلده.

ولم يؤثر في الشعب الفلسطيني تحالف قوى الظلم والاستكبار العالمي مع هذا الكيان الغاصب، فقد تربى هذا الشعب منذ البداية على الوعي بخصومه المحليين والدوليين ، وخصومه المباشرين وغير المباشرين.

غير أن الذي أثر فيه أكثر وشق صفوفه وهد من قوته وأضعفه إلى حد أن خيل للناس أنه عجز هو قبول بعض أبنائه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب والقبول بالتعاون معه ضد مصلحة البلاد والأمة وهم الذين جعلهم الكيان دروعا له يحمونه من المواجهة المباشرة مع أسود المقاومة والجهاد. كما أثر في هذا الشعب الباسل خذلان باقي الأمة العربية والإسلامية للقضية الأساس قضية تحرير فلسطين وقضية القدس باعتبارها رمزا إسلاميا.

يقوم الكيان الصهيوني الغاصب بأكبر مخططاته الاستراتيجية وهي تهويد القدس الشريفة وتنفيذ مشروع الدولة اليهودية الخالصة، وفي سبيل  تحقيق ذلك يسلك ـ بتحد سافر لكل المواثيق الدولية والإنسانية والدينية وللضمير الإنساني والإسلامي ـ مسارات ثلاث :

- تهويد القدس دينيا وثقافيا بإقامة كنائس ومعابد يهودية محل الرموز الإسلامية من مساجد ومكتبات ومقابر وأوقاف، وتغيير أسماء الأماكن والمحلات والأحياء السكنية من مسمياتها العربية إلى مسميات عبرية.

- تهويد القدس سكانيا: بإجلاء وتهجير الفلسطينيين والمقدسيين وسحب هوياتهم وإقامة المستوطنات 600 مستوطنة في أفق بناء 50 ألف مستوطنة يهودية.

- تهويد الجغرافيا بتوسيع رقعة المستوطنات داخل الأراضي المحتلة 1967.

ورغم ما يظهر من استنكارات دولية من قبل الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر التمادي في بناء المستوطنات من شأنه أن يضر بعملية السلام، أو مواقف لدول أخرى كروسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية التي تلوح وسائل الإعلام بوجود خلاف وتوتر بين إسرائيل وإدارة الرئيس أوباما حول مسألة تجميد بناء المستوطنات، أو مواقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي  ومواقف الجامعة العربية ومواقف منظمة المؤتمر الإسلامي وغير ذلك من المواقف فإنها تظل مجرد مواقف شكلية لا ترقى إلى الردع الحقيقي وفرض سلطة القانون لردع المعتدي ومعاقبته، وتاريخ مجلس الأمن والأمم المتحدة هو تاريخ العجز عن تطبيق القرارات في حق إسرائيل والاستئساد على الدول الإسلامية الضعيفة كالعراق وأفغانستان والسودان. فكيف تعاقب هذه البلدان بمزاعم باطلة وتتهم بالإرهاب والتطرف واللا ديمقراطية في وقت يشهد العالم ذو الضمير الحي أن الكيان الصهيوني هو الدولة المارقة والخارقة للقوانين والمواثيق الدولية، وهو الذي يقوم بالإرهاب الحقيقي ويقوم على المزاعم الباطلة والخرافات والأساطير الموهومة ويتغذى بأخطر أفكار التطرف والاستئصال وهو الذي تحميه الدول الرافعة لشعارات السلام والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والشعوب، كما يشهد العالم أن العالم الحر العلمي والعقلاني  والحداثي  والعلماني هو الذي يقف ملتفا حول هذا الكيان الأسطوري والخرافي والأصولي الاستئصالي؟!

إن عجب المرء يزول عندما يعرف أن أوروبا وقعت ضحية مخططات يهودية للسيطرة على المجتمعات الأوروبية ومؤسساتها الثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية والإعلامية ، حتى أفرز ذلك مع نهاية القرن التاسع عشر التحرك الفعلي لشخصيات وهيئات علمية وسياسية وعسكرية واقتصادية أوروبية  لدعم مشروع اليهود في إيجاد وطن لليهود، وظلت الصهيونية العالمية متحكمة في توجيه السياسات الرسمية للدول الغربية إلى حين قيام الكيان الصهيوني في أرض فلسطين المسلمة، حيث استمر هذا الدعمال المالي والسياسي والاقتصادي وتوفير الحماية القانونية والعسكرية لهذا الكيان في مجلس الأمن والأمم المتحدة وفي الدول الكبار،

وإذا كان التطبيع حصل في أوروبا خلال ثلاثة قرون أو يزيد فإنه لم يستغرق في دول العالم الإسلامي أكثر من قرن حتى كانت الدول الإسلامية أكثر تطبيعا وانبطاحا واستسلاما  ووقوعا في مخططات التهويد والتطبيع إلا من فئة قليلة {وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}.

ولئن كانت مرحلة الاستعمار جسدت مرحلة الوعي الجمعي للأمة بضرورة مقاومة المستعمر ورفض ثقافته، فإن مرحلة الاستقلالات التي هي استعمار ثقافي كانت مرحلة القضاء على روح الممانعة في الأمة وقتل مصادر العزة فيها لذلك لم تمر إلا سنون قليلة حتى ظهر عجز الأنظمة الحاكمة عن مقاومة التطبيع بل هي التي مكنت له ثقافيا ودينيا واقتصاديا وسياسيا ولم تسلم إلا فئات قليلة تحمل رسالة الأمة والدين في مقاومة التهويد والتطبيع وتأبى المساومة على مقدسات الأمة في وقت انبطح فيه القادة والزعماء وتخلى المثقفون والمفكرون ونجوم الفن عن مبادئ الأمة وهرولوا متسابقين نحو الفوز بلقب المطبع الأول والمطبع الأكبر ولقب زعيم السلام والفوز بجوائز الأدب الخانع.

إن مشكلة الأمة اليوم هي مع التطبيع مع الكيان الصهيوني والتطبيع مع الفكر الغربي عموما وقدرته على اختراق الأمة أشخاصا ومؤسسات لأن التهويد يبقى فعلا قسريا لابد من أن يزول مهما بنى وترسخ إذا بقي  في الأمة أبناء مخلصون لرسالتهم، لكن التطبيع يجفف المنابع ويفرغ الأمة من طاقاتها ليجعلها ضدها. لذلك فما وصلت إليه الأمة اليوم من عجز رسمي وشعبي عن مقاومة التهويد في القدس إنما هو نتيجة حتمية وطبيعية لموت روح المقاومة وروح العزة في الأمة بسبب التطبيع، ولهذا فلابد من التوكيد على أن التهويد والتطبيع وجهان لسلاح واحد موجه نحو الأمة كل يعمل بطريقته لتحقيق مشروع الصهيونية العالمي ومشروعها في استئصال الإسلام والمسلمين وإقامة الكيان اليهودي الصهيوني. وسنة الله في التدافع لا تحابي أحدا هي سنة المحو والاستبدال لمن تخلى عن واجب الدفاع عن حوزة الدين {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>