مقدمات ممهدات في تكوين القيم الديني


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علما، اللهم افتح لنا أبواب الرحمة، وأنطقنا بالحكمة، واجعلنا من الراشدين فضلاً منك ونعمة.

أيها الأساتذة الفضلاء

بارك الله لنا وللأمة فيكم، وما أسعدنا اليوم بلقياكم، وإن المَنصِبَ هو الذي جعل مثل هذا العبد يتكلم أمامكم، وإلا فأنتم أئمتنا؛ خلفكم نؤدي أفضل ما فرض الله علينا سبحانه وتعالى: الصلاة الواصلة به تعالى.

أيها الأساتذة الفضلاء

هذا اللقاء لقاء تشاور علمي، من أجل التعاون على البر والتقوى. وهو لقاء افتتاحي، له ما بعده إن شاء الله تعالى.

أيها الأساتذة الكرام المقدمات التي آثرت أن أثيرها أمامكم ثلاث:

المقدمة الأولى :هي أن القَيِّم الديني محطة إرسال ومَركزُ توزيع للهدى الرباني والنور في الأمة؛

ذلك بأن الموقع الذي هو فيه، خطيباً وواعظاً وإماماً ومؤذناً، هو أساساً أمام الناس، في موقع خاص،هو ليس كبقية الناس، هو في موقع خاص، في موقع الإمامة بصورة طبيعية، وإنما جُعل الإمام ليُؤتَمَّ به. الأمة اليوم لا يخفى على أحد ما هي عليه سواء محلياً أو دوليا، والذين يمكن أن يكون على يدهم الإسهام في نقل الأمة من واقعها المشهود إلى موقعها المنشود إنما هم الأئمة؛ لأنهم من الناحية العملية موجودون في كل مكان،إذ لابد لنا من مساجد، ولابد لنا من صلاة الجمعة، ولابد لنا من الصلوات الخمس.

لابد لنا من هذه البيوت التي هي بيوت الله،والتي فيها يتجدد ماء الإيمان، وفيها يتجدد نور العلم، وفيها تتجدد الروح المؤمنة بصفة عامة.

المساجد بالنسبة للإنسان، هي الرئة التي فيها يُنقى دم الإيمان في المسلم خمس مرات في اليوم ، فيعود إلى خارج بيت الله، بعد كل حصة تنقية ، وقد تطهر من كثير من البلايا؛ تطهر قلبه، وتطهر تبعاً لذلك لسانه، وتأثرت تبعا لذلك جوارحه، إذ القلب ملِكُ الأعضاء، ومن مَلَكَ القلوب مَلَك الأعضاء، >ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب<،

ألا وإن الذين يتوقع منهم أن يؤثروا في القلوب، ويوجهوا القلوب، إنما هم الأئمة بالمفهوم الشامل للإمامة، إنما هم الأئمة أو القيمون الدينيون بالاصطلاح الذي نعيشه الآن: الخطباء، والوعاظ، وأئمة الصلوات الخمس، والمؤذنون -وهم نواب عنهم-. كل أولئك بصفة عامة مطلوب منهم أن يوزعوا نور الله وهدى الله عز وجل على عباد الله، وقد كثر الظلام في الكرة الأرضية كما هو معلوم ومعروف، فعملية إحياء الناس وإنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور إنما تتم على يد هؤلاء، وهم موزعون بصورة طبيعية في كل المدن والقرى في الأمة الإسلامية، فلا يوجد حيّ يخلو من إمام، ولا يوجد مدشر من المداشر في القرى والبوادي يخلو من إمام، فإذا صلح ذلك الإمام وهو قَلْبُ ذلك التجمع البشري في الأمة المسلمة، إذا صَلَحَ، صلح بصلاحه من حوله من الناس، ولن يستطيع أن يكون كذلك حتى يكون موصولاً بربه حقا، يقبس النور من نور السماوات والأرض: يأخذ من اسم الله العليم “العلم”، ومن اسم الله الحكيم “الحكمة”، ومن اسم الله القوي “القوة”، يأخذ من أسماء الله الحسنى ما به يغذي الناس ويروي عطشهم.

إن صلاَح الأئمة يعني صلاح من حولهم، وصلاح من حولهم يعني صلاح الأمة كلها بفضل الله تعالى، فقط يجب أن يُخلِصُوا لله جل جلاله، ويَخْلُصُوا لله جل جلاله، فهو نور السماوات والأرض، {الله نور السماوات والارض}، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}، لا نور إلا من نور الله جل جلاله، ولا هدى إلا من هدى الله جل جلاله {قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}.

فالقيم الديني أيها الأحبة، هو حامل الهدى وموزعه في الكرة الأرضية، وهو الداعي إليه به. هو الداعي إلى الهدى، وهو الداعي بالهدى إلى الهدى.هو الداعي بهدى الله عز وجل إلى هدى الله عز وجل، والله جل جلاله هو مُمِدُّه، فيجب أن لا يتوكل إلا عليه، يجب أن لا يتوكل إلا على الله سبحانه عز وجل، {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدرا}.

 المقدمة الثانية:أن القيم الديني في مقام الأسوة والاقتداء بالنسبة لغيره؛  

  ذلك بأن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يُورِّثوا دينارا ولا درهما، وإنما وَرَّثُوا العلم، والعلم الحق هو العلم بالله سبحانه وتعالى،ثم العلم باليوم الآخر، هو العلم بأركان الإيمان أساسا؛ لأنها التي تضبط سلوك العبد، وتورثه الخشية من الله جل جلاله، وتورثه الخوف من اليوم الآخر، وترزقه الاستعداد للقاء الله جل وعلا في ذلك اليوم. هذا العلم هو العلم، {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير}، {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما}، هذا هو العلم، لا ما يقال إنه العلم، فكل علم غير هذا العلم هو أصلا ينبغي أن يكون من هذا العلم، ومَرَدُّه إلى هذا العلم، والحُكْمُ عليه بهذا العلم، فالهيمنة في الكرة الأرضية يجب أن تكون للعلم الرباني لا لسواه، فهو العلم الذي إليه يُرد جميع العلم ، وجميع العلوم إنسانية كانت أو مادية يجب أن ترد إلى هذا العلم؛ فمن القيم الديني إذن يتجدد أمر الدين في الأمة ويتيسرأمر إحياء الأمة.

لابد من روح جديدة تُنفَخُ في الأمة لاستنهاض الأمة، فكيف تُستَنهَض إذن؟ إنما تستنهض بما استُنهِضَتْ به أول مرة، >لن يَصلُحَ آخر هذا الأمر إلا بما صلَحَ به أوَّلُه<.

والأئمة -كما قلت- أي : الخطباء والوعاظ وأئمة الخمس والمؤذنون، لا يخلو منهم مسجد في الأمة، إنهم موجودون في جميع المدن، وموجودون في جميع المداشر، وموجودون في جميع الأحياء، فإذا حرصوا، و اهتموا بأنفسهم فأصلحوا أمرهم مع ربهم أولا، ثم مع الناس ثانيا، وتفقهوا في دين الله عز وجل، وتخلقوا بما أمرهم الله عز وجل أن يتخلقوا به، ثم بذلوا أقصى الجهد في سبيل الله لبلاغ رسالات الله سبحانه عز وجل، فإن الخير العظيم سيكون على أيديهم للناس جميعا، بل للكائنات جميعا.

المقدمة الثالثة:  هي أن القيم الديني نتيجة تكوين أساسي يسبق التكوين المستمر؛

ذلك بأنا نأخذ القيم الديني أساسا من التعليم، والتعليم أنواع، وهو بجميع أنواعه يجب أن يكون فيه ما يُؤَهِّلُ، وذلك يجعلنا نحصل على القيم الديني جاهزا علماً وخُلقاً، نحصل عليه معلومات من جهة، وأخلاقاً من جهة، وتكويناً وتدريبا من جهة أخرى. أين ينبغي أن يكون هذا؟ يكون أولا في مؤسسات التكوين الأساسية: في الجامعات، في المدارس العتيقة، في المدارس الأصيلة، في مدارس التعليم العام… كل تلك المؤسسات يجب أن يوضع في حسابها أن صِنْفاً منها سيكون يوما ما إماماً للناس، فينبغي أن يرتفع مستواها الشرعي؛ لأن بارتفاع مستواها في العلم الشرعي يرتفع مستوى تأهيل الذي سيحمل الأمانة بعد، ثم من بعد ذلك يضاف ما يضاف في  مراكز التدريب ومراكز تكوين الأطر إن تيسرت، ثم من بعد ذلك يضاف ما يُسمَّى بلغة العصر: “التكوين المستمر” ، ذلك الذي يضيف ما جَدَّ من المعلومات، فيجعل الشخص مواكباً لما يَجِدّ بصفة عامة.

وإذن، فالتعليم التعليم التعليم…، والعناية العناية بالتعليم لرفع مستواه.

هذا هو المخرج عملياً بالنسبة لتكوين القَيِّمِ الديني حقيقة، سواء أردنا العلاج لما هو كائن، أو أردنا الوقاية من البلايا التي يمكن أن تكون.كل ذلك لا يتيسر بغير التكوين الصحيح للقيم الديني.  وواضح أن المؤسسات في هذا الأمـر على ثلاث رتب :

أولا مؤسسات التعليم العتيق، و هي التي فيها حظّ العلوم الشرعية أكبر، وأهلها يحفظون كتاب الله عز وجل وعددا من المتون.

ثانيا مؤسسات  التعليم الأصيل؛ وتأتي في الرتبة بعد التعليم العتيق، وقبل التعليم العام.

ثالثا التعليم العام الذي نسأل الله تعالى أن يرتفع حظ التعليم الشرعي فيه إلى أعلى مما هو عليه.

أخيرا أختم بالكلمة  المشهورة :>لأن تُوقِدَ شمعةً خير من أن تَسُبَّ الظلام<.

إن سبُّ الظلام لا يُجدي شيئا، سُبَّ ما شئت من الظلام، جميع أنواع الظلام : صغيرة كانت أم كبيرة، محلية أم دولية، إن ذلك لن يعطينا قدر شبر واحد من الإبصار، لن نستطيع أن نبصرشيئا من الطريق  ولو سَبَبْنَا ما سببنا، وبعكس ذلك إذا أوقدنا شمعة ولوصغيرة ، نستطيع أن نرى مساحة كبيرة، فكيف إذا كان المصباح قويا؟ وكيف إذا ازدادت قوته؟ وكيف إذا تكاملت المصابيح؟.

وإنما القيمون الدينيون مصابيح في الأرض.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>