ضرورات الاستراتيجية الثقافية


إن السعي لوضع خارطة استراتيجية ثقافية إسلامية في عالمنا المعاصر، كانت ولا تزال، واحدة من أشد الضرورات أهمية وإلحاحاً لأكثر من سبب :

فهناك -مثلاً- ضرورة تجاوز التفتت والتناقض والارتطام في المعطيات الثقافية لعالم الإسلام، والتحوّل -بدلاً عن ذلك- إلى اللمّ والتنسيق والتناغم لتحقيق بلورة أكثر للذات، وفاعلية أشد في العطاء، في زمن المسابقة الحضارية التي تحتّم احترام عامل الزمن والمحاذرة عن الوقوع في مأساة هدر الطاقة.

وهناك الانفجار المتزايد في المعلومات وتقنيات التواصل المعرفي والذي يمكن أن يكون سلاحاً ذا حدّين، فالذين يملكون استراتيجية عمل ثقافي سيعرفون كيف يفيدون منه وفق أقصى حالاته المتاحة، والذين لا يملكون هذه الاستراتيجية قد ينقلب عليهم وبالاً، فيزيدهم فوضى وتبعثراً واضطراباً، وقد يؤول الأمر إلى ضياع كلّي لشخصيتهم الثقافية واندغامهم في بحر الثقافات الأشدّ فاعلية، والأكثر قدرة على التخطيط والاستشراف والإفادة من هذه التقنيّات المتطورة.

وهناك، فيما عدا حالات استثنائية لا تغطي سوى مساحات محدودة، فراغ مخيف واضح لكل ذي عينين، يعاني منه عالم الإسلام في مجال التخطيط الثقافي رغم كل الظروف الميّسرة للتحقّق بهذا التخطيط، الأمر الذي قد يؤول إلى مزيد من النتائج العكسية التي توسّع الهوّة بين عالم الإسلام والعالم المتقدم، ويجعل من التسارع لوضع ملامح استراتيجية عملٍ مركزي شامل، ضرورة من الضرورات.

فإذا ما تذكرنا أن تحدّي الحضارة الغربية المعاصرة لحضارتنا الإسلامية هو في جوهره تحدٍّ ثقافي، وأنه بصدد خلخلة واقتلاع هذه الثقافة من جذورها، لهذا الهدف أو ذاك، أدركنا أن مجابهة هذا التحدي لن تأتي بطائل ما لم تعمل ضمن استراتيجية عمل ثقافي موحّد يضع يديه على الملامح الأساسية لهويّة المسلمين الثقافية، مستمداً إياها من عقيدتهم المشتركة ورصيدهم التراثي المذخور، واضعاً نصب عينيه أن يكون للمسلمين مكان متميّز على خارطة الثقافات في عالمنا المعاصر، لا بالالتجاء إلى الغير ومقاربته بالتقليد والتكديس، ولكن بالتميز والأصالة وتعميق الملامح، مؤكداً على مستقبل يكون المسلمون فيه أكثر قدرة على المشاركة العالمية بمعطياتهم ذات الخصوصية، وبالتالي أكثر قدرة على التأثير في مستقبل العالم، واستعادة موقعهم الأصيل الذي دعا إليه كتاب الله وسنة رسوله  في الوسطية والشهادة على الناس : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة : 143)، مستفيداً ما وسعته الاستفادة من تقنيات التعامل المعرفي التي يمكن إذا أحسن التعامل معها، أن تختزل حيثيات الزمن والمكان، وأن تحقق المقاربة الموعودة من العالم المتقدم الذي تباعد بيننا وبينه المسافات الطوال.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>