القدس المسلمة السليبة في قلوب المسلمين (3)


الوجه الحضاري لقبة الصخرة :

هذه المنطقة بالذات كانت منذ حقب طويلة في التاريخ محط أنظار المتدينين واهتمامهم، فقد قدسها قدماء الساميين، وعظمها بنوإسرائيل والمسيحيون والمسلمون.  ويروي أهل السير أن محمدا  وضع رجله على الصخرة لما عرج إلى السماوات العلى.

وقبة الصخرة إحدى معجزات الهندسة المعمارية الإسلامية، وأقدم أثر إسلامي قائم ونادر على حالته الأولى إلى حد كبير.

فقد شيدها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 62 هـ (691م)، واستغرق بناؤها سبع سنوات بتمويل من خراج مصر الذي خصص للبناء طيلة سبع سنوات، إذ أصدر هذا الخليفة أمره إلى رجاء بن حيوة الكندي بصفته أمينا على الإنفاق، وعين المهندس يزيد بن سلام المقدسي منفذا للمشروع. وبقيت القبة إلى الآن محافظة على رونقها الأصلي التليد الجميل.

وشكل الصخرة منبسط، له دلالة روحية عميقة منذ الخليل إبراهيم \ إلى سيدنا محمد ، وفوقها تم بناء القبة التاريخية الشهيرة بالحرم المقدس الشريف. ويحدد الأثريون أبعاد هذه الصخرة إلى 1813 مترا، ولها ارتفاع فوق سطح الأرض داخل القبة يبلغ مترا واحدا ونصف.

وتحت القبة كهف يبلغ حوالي أربعة أمتار مربعة، وعلى سطحه فجوة بقطر متر واحد تقريبا.

وآراء علماء الآثار العالميين خصوصا منهم الألمان والفرنسيون المتخصصون في دراسة النقوش المعمارية العربية والإسلامية، أن هذه النقوش الفسيفسائية هي حروف آيات قرآنية مذهبة على أرضية زرقاء بالخط الكوفي. كما يؤكدون على أن ما تمتاز به قبة الصخرة عن كل المنشآت الأخرى يرجع إلى بساطة تصميمها وتناسق أجزائها ودقة نسبها، وهذا لم يكن قد نفذ صدفة، لأن كل جزء من البناء صمم بدقة على ضوء العلاقات المعمارية المختلفة بالأجزاء الأخرى وأبعاده المحسوبة.ولهذا يبدو من الرؤية الداخلية أثر بالغ القيمة، يجعل الرائي مندهشا لانسجامه وجماله المتميز. وهذا الذي حمل أحد المعماريين الأثريين وهو هايتر لويس (Hayter Lewis) على القول: >إن أناقة النسب التي نراها بقبة الصخرة لا توجد بأي بناء سواها فيما رأيت<.

كما أثار ذلك الأثري العالمي البروفسور كريسويل بعد دراسته المباشرة للصخرة والقبة، فرأى أن مهندس قبة الصخرة كان بارعا وعبقريا، عندما عمد إلى أن يكون في دائرة دعامات القبة لفت بسيط على نحوبالغ الدقة والعبقرية بتجنب حجب الأعمدة الواقعة أمام الرائي الأعمدة الأخرى المقابلة لها في الطرف الآخر، فباستطاعة كل من يدخل القبة من أي باب من أبوابها أن يرى جميع ما بها من الأعمدة سواء منها ما كان أمامه تماما وما كان في الجهة المقابلة(1).

ومن أعلى الداخل فوق الأقواس المثمنة نقشت آية الكرسي، ومن أعلى الخارج من جهة القبلة نقشت آيات من سورة الإسراء، كما تتكرر من الخارج فوق أقواس المثمن الأوسط (لا إله إلا هوالأحد الصمد، لم يلد ولم يولد). وتظهر زخارف نباتية على الواجهة تمثل أشكال نخيل وفاكهة وكؤوس وقوارير على أجزاء فسيفسائية، وفي الأسفل رخامة ملتوية  توحي بجريان الماء، كل ذلك استوحاه الفنان المبدع من أوصاف الجنة في قرآننا الكريم.

فمظهر البناء الحضاري يكشف عن نضج بليغ وقدرات هائلة متميزة عقلية ووجدانية للإنسان العربي المسلم، ومدى انسجامه التام مع عقيدة دين التوحيد، دين الإسلام العظيم.

تكـالب الحاقدين على تهويد بيت الـمقـدس:

إن القدس قديما وحديثا تحمل قيما معنوية عظمى، ولإنصافها يجب أن تأخذ قضيتها ما يناسبها من الاهتمام والعناية من لدن المسلمين والعرب والإنسانية جمعاء، بكل أبعادها الدينية والحضارية والثقافية والتراثية.

واليهود بمساعدة النصرانية الغربية الحاقدة على الإسلام تغتصب أرضا طاهرة، كانت مهدا للأنبياء والرسل والعلماء والصالحين، وهي رمز قوي لمجموعات بشرية: مسلمين ونصارى ويهود.

وكما هومعروف عن نفسية اليهود، أنها نفسية معقدة، تغلب عليها النزعة العرقية، والتطاولية والتكبر سواء في تعاملهم مع غيرهم، أوفي عبادتهم الله، أوفي تقييمهم للتراث العالمي، وحتى عبادتهم أسسوها على مبادئ عرقية استعلائية، تغذيها عوامل تاريخية من الخوف والاضطهاد والمصير المؤلم جزاء على أفعالهم، فقد قال فيهم الحق سبحانه:  {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم ســوء العذاب} (الأعراف : 167).

واليهود ؟-متدينون وغير متدينين-؟ يزعمون أن القدس تحقق لهم المثالية والسمو في علاقتهم مع الله، ومكوثهم في القدس يحقق لهم قمة السيادة والوحدة لاستمرارهم وتجبرهم واستعلائهم، وهذا الشعور يولد فيهم الاعتداء الدائم السافر على الفلسطينيين السكان الأصليين للقدس، بل ويتطاولون في اعتدائهم على الأمم الأخرى المجاورة. ومهما جرى معهممن تفاوض عن السلام في المنطقة، فإن الواقع يفضحهم ويكشف دخائل نفوسهم الخسيسة، وكل ذلك تحايل وتلاعب ومراوغات ليس من ورائها طائل. فمكرهم مستمر للقدس الشريف وفلسطين، وظلمهم دائم لأهلها ولتراثها الحضاري العظيم.

والمسلمون أينما كانوا وحيثما وجدوا مرتبطون بهذا البيت بروابط دينية وعاطفية قوية، ويعلمون القيمة العظيمة لبعد العبادة فيه، بل إن كل مسلم وبدون مبالغة يتمنى أن يعطي نفسه في سبيل تحرير هذه الأرض الطاهرة التي نجسها المستعلون الغاصبون والخائفون المرعوبون اليهود.

إن المسلمين في كل أصقاع المعمور يدركون في قرارة أنفسهم وبقوة مدى أهمية بيت المقدس دينيا وحضاريا وتراثيا وثقافيا، واليهود على علم بكل هذا، وذلك ما يذكي جذوة أحقادهم، ويدفعهم إلى الاستمرار في سيطرتهم على بيت المقدس وتغيير ومسخ كل معالمها الإسلامية.

والتاريخ يشهد وبحق كم كان هذا البيت المقدس متسامحا مع كلالديانات إلى أبعد الحدود!  وقد احتواهم حضاريا وثقافيا ودينيا.

أما النصارى فقد خبت فيهم جذوة الدين وجذوة الإيمان، وانطفأت فيهم  شمعة الروح، وتحولوا إلى أشباح، والأقل القليل الذي يزور منهم بيت المقدس وفي فترات ومناسبات قليلة، كعيد الفصح وميلاد المسيح، وقد غابت القدس نهائيا في أدبياتهم وثقافاتهم وفنونهم،  خصوصا وأنهم أصبحوا بعيدين عنه في بلدان أخرى، خف فيها الوازع الديني، بل مسخ وأصبح طقوسا محرفة بعيدة كل البعد عن وحي السماء. بل إن تواطؤهم مع اليهودية العالمية بدا واضحا منذ وعد بلفور المشؤوم، وأكثر وضوحا حين أعلن مجلس الكنائس العالمي سنة1977 تأييده لهيمنة اليهود عل بيت المقدس، ويعلن العالم المسيحي دائما (بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس) وفي مناسبات كثيرة تفضيله العلني لهذه الهيمنة، لأن اليهود كما يزعمون شركاؤهم في تراث بيت المقدس.

وما ذلك إلا حسد من النصارى واليهود للمسلمين على دينهم الحق المبين، حملته الصليبية الحاقدة منذ الحروب الصليبية، وحمله اليهود منذ عصور قديمة، وتتكاثف جهودهم على الانتصار للباطل ودحض الحق.

وقد نبه كتاب الله تعالى المسلمين إلى ذلك، فقال سبحانه: {ود كثير من أهل الكتاب لويردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق}(البقرة : 108).

وكما أخبرنا الصادق المعصوم  الذي لا ينطق عن الهوى: >يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: أومن قلة نحن يومئذ، قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت<(2).

ذ. عبد القادر بنعبد الله

———-

1- كريسويل  – عن العمارة الإسلامية المبكرة.

2- سنن أبي داود من حديث ثوبان.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>