الـمـرأة والـهـجـرة


دة. نوال الرمضاني

لا مرية في أن أي انتفاضة لكي تنتصر لا  بد لها من توفر جملة من الإرهاصات والظروف خاصة العنصر البشري ، والهجرة النبوية الشريفة كانتفاضة على الكفر والرق وغيرهما ما كانت لتأتي أكلها لولا أولئك الرجال والنساء الدين صدقوا الله ماعاهدوه عليه فانطلقوا بخطى ثابتة يحاربون الوثنية وبراثينها بكل ما أوتوا من قوة ومال وولد.

وحين نتحدث عن أبطال الهجرة من النساء تتبادر إلى أدهاننا شخصيات لا يمكن تجاهلها تحت تأثير أي ظرف من الظروف ، شخصيات صنعت الهجرة بدمها ومالها وبدنها وولدها مبرهنة على أن المرآة لا تقل عن الرجل في العطاء والتضحية وبدل الغالي والنفيس . ولنعش لحظات قصيرة مع نموذجين من نماذج الإيمان الصادق والحب الطاهر الذي تذوب معهما كل الاعتبارات.

ذات الـنـطـاقـيـن:

تعد أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من الشخصيات البارزة التي أسهمت في تفعيل وإنجاح عملية الهجرة في انطلاقتها الأولى فقد اضطلعت بدور لا نظير له فهي التي كانت تزود رسول الله  وصاحبه وهما في الغار بالطعام والشراب غير مبالية بالصعاب وبالخطر الذي قد يصيبها وجنينها إذا ما انزلقت قدمها وهي تصعد جبل ثور، ولا مكترثة بما قد يلحقها من أذى أو عذاب إذا ما رمقتها عين من عيون أبي جهل  وأصحابه: “عن عائشة رضي الله عنها قالت فجهزناهما أحسن جهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فبدلك سميت ذات النطاقين “.

وظلت أسماء صابرة على الأذى هاجرة الخنوع والضعف والاستسلام، يقول ابن هشام عن أبي إسحاق : “فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت لما خرج رسول الله  وأبو بكر ] أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قال: قلت: لا أدري والله أين أبي قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي”(1) إنه فعلا موقف من صدق إيمانه وهجر الخنوع .

وهاهي مرة أخرى تبرهن عن موقفها بكل صمود، قال ابن هشام عن ابن إسحاق: فحدثني يحي بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه عبادا حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله  وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله ومعه خمسة ألاف درهم وستة ألاف درهم فانطلق بها معه، قالت فدخل علي جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه  قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت قلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذته بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، قالت فوضع يده عليه فقال  لا بأس إذا كان ترك لكم هذا  فقد أحسن، في هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك شيئا ولكني أردت أن أسكت الشيخ  بذلك”(2).

أم سلمة بنت أبي أمية بنت المغيرة:

هي من أكثر نساء الهجرة تعرضا للأذى والبلاء خلال هجرتها فقد خيرت أصعب خيار بين أمومتها ودينها يقول ابن هشام عن ابن إسحاق : “فحدثني ابن إسحاق بن يسار ،عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة عن جدته أم سلمة زوج النبي   قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل مع بعير ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة  في حجري ثم خرج بي يقود بي بعيره فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه  نفسك غلبتنا عليها ،أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في  البلاد ؟  قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه قالت:  وغضب عند دلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا :لا والله، لا نترك إبننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوايده، وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة قالت ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني(3). وإنها حقا لمحنة لا ينجو منها إلا من صدقت نيته وسريرته.

هذان نموذجان من النماذج الكثيرة من تاريخ الهجرة المباركة التي برهن صانعوها على صمودهم وصدق في إيمانهم.

ونحن مطالبون اليوم -رجالا ونساء- بربط الحاضر بالماضي والاستفادة من تاريخنا أحسن وأعمق استفادة ، ولعل أعظم درس نستفيده من الهجرة المباركة أنها رمز روحي يجسد خير تجسيد عما ينبغي للمسلم أن يكون عليه في كل لحظة من لحظات حياته ، فالهجرة الروحية لا ترتبط بالمقاييس المادية الزائلة المتغيرة، ولكن تتعدى ذلك لتصل بالإنسان إلى السمو والرفعة:”المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”(4)  “لاهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”(5)، جهاد النفس وتدريبها على الفرار بالموتإلى الله عز وجل ولو انتهى هدا الفرار بالموت {ففروا إلى الله إني لكم منه ندير مبين}(الذاريات : 150).

والفرار إلى الله من صفات المؤمن الصادق الذي يفر في كل لحظة إلى الله ويهاجر فهو مقصده في جميع أعماله {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبدلك أمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام : 162).

فلتكن احتفالاتنا بذكرى الهجرة النبوية خطوة في تطبيق شرع الله ورسوله، ولتكن لنا في رسول الله  أسوة حسنة إن كنا نرجو الله والدار الآخرة ، وعلينا أن نثبت وجودنا بصدق نياتنا وعقيدتنا وأن نعي جيدا قدر وحجم وخطورة المسؤولية الملقاة على عاتقنا وننطلق إلى أهدافنا بكل ثبات وإخلاص {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}(الحج : 40).

——-

1- سيرة ابن هشام :لأبن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري ت : 213هـ ، تحقيق مصطفى السقا ـ إبراهيم الأبياري ـ عبد الحفيظ شلبي ، الطبعة الأولى 1422/2001 مكتبة الوحدة العربية ، ص 194

2- سيرة ابن هشام : ص195

3- سيرة ابن هشام : ص: 186

4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، كتاب الرقاق ، باب الانتهاء عن المعاصي حديث : 6484 ، ص: 316 ج: 11 ضبطه ورقمه محمد فؤاد عبد الباقي ومحمد الدين الخطيب ، دار المعرفة بيروت / لبنان

5- صحيح مسلم مع شرحه المسمى إكمال إكمال المعلم للإمام محمد بن خليفة الوشتاني الأبي ، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح ح: 1353ـ 1864 ص: 582ضبطه وصححه محمد سالم هاشم ، دار الكتب العلمية بيروت / لبنان الطبعة الأولى 1415/ 1994

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>