الشدائد والـمِحن هي التي تصنع الرجال الـمُتحَدِّين بالتخطيط الرشيد، والحُكم السديد


إنّ العالم الإسلاميَّ بصفة عامّة، والعالَمَ العربيَّ بالأخص أصْبحا غارقين في الحُكْم الفرديِّ، وعبادةِ الشخصية مُنْذُ طلَّقا طلاقاً باتّاً الشورى التي علَّمها رسولُ الله  للمسلمين بالقول والعمل، لتعليم المسلمين حُسْنَ التطبيق لمبدإ الشورى الذي تفرَّد به الإسلام زمَن الديكتاتوريات والفرعَوْنيات والدَّمويات والعِرْقيات والعصبيات، كي يترسّخ هذا المبدأُ في سياسة المسلمين وعُرْفهم وعادتهم كما تترسَّخُ أركان الإسلام، لأن الشُّورَى هِي سياجُ الحمايةِ للإسلام النّقِيِّ الطاهِر الأصيل، الذي نَزَل به جبريل ، على الرسول الأمين رحمةً للعالمين، وإنقاذاً لهُم من حكم البشر للبشر، وانتقالاً بهم من حُكْم الحجَر والشجر والقمر والبقر والبَشَر إلى حُكْم ربِّ البشر والقمر والحجر والشجر…!!

فقد أصابَ الإسلام -منذ افتقاد الشورى- تلَوُّنٌ كبيرٌ، وأصْبح الإسلامُ المعْروف في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم إسْلامَاتٍ، فهناك إسلامُ الخوارج، والمعتزلة، والقدرية، والجهمية، وإسْلامُ أهل الصُّفة، وإسْلام الصوفيين، والسّنيين، والإسلامُ السياسي، والإسلام الرّوحي، والإسلام المذهبيُّ… والقائمة تطول… بدون أن يكون هناك عاصِمٌ يسْتطيع حمايةَ المسلمين من هذا التشَرْذُمِ الذي أُصِيبُوا به، من قديم، ومازالوا مصابين به رَغْم مُرُورِ أكثر من أربعة عشرَ قرناً من التجارب على المسلمين، تجارب مظلمة، وتجارب مضيئةً، ولكن التجارب المضيئة لم تكن تكادُ تضيء حتى ينطفِيء شعاعُها في ظلام الأهواء الجامحة!!

السببُ في كُلِّ هذا، وأكثر مِن هذا فقْدان البوصلة الموجِّهة جهة الصراط المستقيم الذي تركَنا عليه رسول الله  كالمحجّة البيضاء ليْلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد زَاغ عنها الكثير، وهلكَ في زيَغَانِه الكثير، ولكن من يتّعظ؟! من يفْقَه؟! بلْ من يفهم؟! ومن يُدرك مواقِع الزّلل والزّلق فيتجنّبُها، ويحذِّر مِنها بحكمه وسياسته؟! العمَى يتناسَل، والإبْصارُ يُغطّيه التهافت على الدنيا، وعلى الكرسيّ، والمنصب، والجاه، والحُظوة، والمنزلة، والمكانة المرموقة، والأرصدة المنتفخة؟!

عمَى تامٌّ عن منزلة الأبرار الذين جعلهم الله عز وجل في العِلّيين ، ومنزلة الحامدين الشاكرين الذين اختار الله عز وجل لهم الفوز العظيم بالفردوس الأعلى، ومنزلة عبادِ الرحمان المتواضعين الخائفين الزاهدين في المظاهر الكاذبة الذين أعدَّ الله عزو جل لهم الغرفة العليا من غُرَف الجنة، ومنزلة المُكرّمين حقا الذين يقضي الله عز وجل لهم بالجنة، فتستقبلهم الملائكة بالتبشير والترحيب قائلين لهم {سَلامٌ عليْكُم طِبْتُم فادْخُلُوها خَالِدِين}.

فلماذا يعْمَى عُشاق  الكرسي والمنصب عن هذه المنازل الخالدة كلها، ويتهافتون على لذة عشر سنوات أو عشرين سنة أو ثلاثين سنة تمرُّ كأنها لحْظةٌ، ثم أخيراً يتساقطون في مُسْتنْقع الجحيم كالفَرَاش المخدوع بِلَهَب نار السموم، فيتفحَّمُ أثَرُهم وتاريخُهم كما يتفحّمُ الفراش في الجحيم؟!!

إن رسول الله  علّم المسلمين الشورى في كُل موقف محوِّل للاتجاه لم ينزل فيه وحْيٌ فاصِلٌ. ففي بدْرٍ  خرج  للتعرض لعير قريش، ولكن عندما تحوّل الموْقِف بنجاة العير وقدوم عُتاة قريش عقَد  مجلساً للشورى ليواجه الجَيْش الطاغي بجيش مومن على بصِيرةٍ من أمره، وعندما نصرهم الله تعالى ببدر، وأصبح بأيديهم سبعون أسيراً بدون وحْيٍ موَجّهٍ، استشار الصحابة فيما يفعل بالأسارى، وعندما وصلَهُ الخبرُ بخروج قريش للثأر لنفسها مِمّا أصابها ببدر، استشار المسلمين هل يخرج للقائهم أم يتحصّن بالمدينة؟! وعندما اجتمعت الأحزاب على رسول الله  والمسلمين بالمدينة رأى  أن يُفَرِّق شملهم بإعطاء غطفان بعض ثمار المدينة ليرجعوا، ولكن قبل أن ينفِّذ هذا استشار سعْدَ بن معاذ، وسعْد بن عبادة -سدا الأوس والخزرج- في هذا الأمر، فعارضا في ذلك، وقالا لا نعطيهم إلا السيف بعد أن شرّفنا الله بالإسلام، فنزل عند رأيهما. وعندما تلكّأ المسلمون -امْتعاضاً- في الحديْبِيّة في تنفيد أمر الرسول  بالحَلْق أو النحر أو الذبح استشار  أمّ سلمة رضي الله عنها، وعندما وجد الأنصارُ في أنفسهم ما وجَدُوا عندما أعطى رسول الله  المُؤلفة قلوبُهم، وتركهم، جمعَهم في قُبّةٍ واحِدة خاصة، فطيّبَ خاطرهم واسترضاهم بإعْلاءِ حقيقة الإيمان في نفوسهم حتى رضُوا رضاءً كاملا، ولم يغضب  عليهم ولمْ يزجُرْهم، وإنما بصّرهم بالغنيمة الحقيقية الخالدة، وهي رجوعُهم برسول الله  في رحالهم، في الوقت الذي يرجع الناس بالشاء والإبل؟! فمن الرابح؟!

فلماذا لا يتعلّم حكامُنا، ومسؤولونا، وآباؤنا، وقادة أحزابنا، وقادة العاملين للإسلام من رسول الله  وحياتُه كلها شورى -في كل مالم ينزل فيه وحي-؟! ولماذا لا يفقهون قول الله عز وجل لرسوله  {إنّما أنْتَ مُذَكِّر لَسْتَ عَلَيْهِم بمُصَيْطِر}(الغاشية : 22) أهُم أفضلُ مِن رسول الله  الذي أعطاه الله عز وجل حقّ السياسة بدون سيطرة؟! أو قهر وغَلَبة؟! بل لماذا لا يفقهون قـول الله تعالى : {لاَ إِكْراهَ فِي الدِّين}(البقرة : 255)، وقول الله تعالى : {فَمنْ شَاءَ فلْيُومِن ومنْ شَاءَ فلْيَكْفُر}(الكهف : 29) مع أن الله تعالى لو شاء لجعلهم أمةً واحدة مستقيمةً على طريق الخير والهداية، ولكنه سبحانه وتعالى لمْ يفْعَل ذلك تقريراً منه سبحانه وتعالى لكرامة الإنسان وحريّة اختياره حتى يكون على بيِّنة من أمر ربّه ودينه وشؤون دنياه لحِكمة الإِعْمار للكون عن طريق التدافع بين الحق والباطل، أفيكون هؤلاءِ المستبدُّون بالأُسَر والحُكْم والسياسة أحْكَمَ من الله تعالى وأعْلَمَ؟!

إننا فقدنا الشورى منذ زَمن المُلْكِ العاضِّ، إلا أننا فقدناها أكْثر بأضعاف مضاعفة عندما دخلنا المُلك الجَبْري الذي أخبرنا به  في الحديث الذي رواه أحمد وغيره، حيث قال  : >تَكُون خِلافةٌ على مِنْهَاجِ النّبُوّة، فتَكُون ما شَاءَ اللّه أن تَكُون، ثُمّ يرْفَعُها إذاَ شَاءَ أنْ يَرْفَعَها، ثمّ تكُون مُلْكاً عاضّاً فتكون ما شاء الله أن تكو ن، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً جبْريّاً فتكون ما شاء الله أن تكُون، ثم يرْفَعُها إذا شاءَ أن يرْفَعَها، ثم تكون خِلافَةٌ على مِنْهاج النّبُوَّةِ، ثم سَكَتَ< فالمُلْك الجبْريّ دخَلْنا فيه يوم أن غَشِيَنا ليْلُ الانقلابات العسكرية التي جاءت بصِفَة المُنْقِذ فكانت بيس المُغرق في ليالي الجبريّة والديكتاتورية التي لا تأخذ العبرة ولا الدروس من :

> الحضارة المزدهرة التي عشناها أيام التفرد بتنفيذ شرع الله في كل شيء وعلى رأْسِه تشريع الشورى.

> من التخلّف الذي وصَلْنا إليه عندما أخذنا ببعض الكتاب وتركنا البعض الآخر وعلى رأس المتروك الشورى.

> ومن التقدم المادي الذي وصل إليه غيرنا : علْماً:، وثقافة، وإدارة، وسياسةً، وتكافلاً، وتوحُّداً، وتنظيماً للمؤسسات بواسطة الديمقراطية التي هي مجردُ جزء يسير من مَبْدإ الشورى عندنا.

> من بعض الإشراقات الديمقراطية القصيرة التي أشرقَتْ هنا أو هناك، ولكنها سرعان ما تُخْنَق أنفاسُها، فتهب عليها رياحُ الديكتاتوريات المسلحة بالقهر والقمع والسجن والقتل والتعذيب الموحش.

لقد عاش العالمُ العربي في القرن الماضي ثَوْرات طبّل لها وزمّر، لأنه كان يظن أنها المُخلّص له من جحيم الجمود، وجحيم التقليد والركود، وجحيم الجهل والتخلف، وجحيم البلادة وانعدام الوعْي الراشد، إلا أنها -مع الأسف- كانت أكْثر وبالاً على الشعوب بسبب الغرور الذي صاحب زعماءَها، فهناك من ضيّعَ -بغروره- الأرض والعِرض، وهناك من رَهَن وطنَه لمشيئة العدُوِّ، وهناك من جَلَب الاستعمار الجديد لوطنه، وهناك من رضِي بالعَمالة المستسلمة للاستعمار الجديد، أفتكون زعَامَةُ السودان مُسْتثْناةً من سلسلة الزعامات التي كانت خالية من الرزانة والعقلانية؟! نرجو ذلك. لأن التحدِّي الحقيقي يتطلب كلاماً أقلّ، وعَملا أكثر مع التخطيطات المُحْكمة، والاستشارات المطوَّلة مع أُولي الأمْر النيّرين من العلماء الربّانيّين، والعُقلاء الراشدين، لأن التحدِّي فوق ما يتصوره بعض البسطاء بأنه يُمكن إطفاءُ ناره بنَفْخة، أو عِلاجُ سُمِّه بنَفْثةٍ، ولكنه يتطلّب :

1) إعْدام الدساتير المكرِّسة لحُكْم الفرد، أو التي تخطط لتوريث الزعامة، فالشعوب بامْتِلاك حرية الإرادة قادِرةٌ على الاهتداء لاصْطفاء أحْسَن الكفاءات، وأحْسَن القيادات.

2) التصالُحَ مع المعارضين عن طريق التحاور الجدّى المخْلص الذي يقود إلى الإقناع أو الاقتناع.

3) إعدامَ لغة السجون والمعتقلات والتهديدات والإهانات، فكرامةُ الإنسان فوق كل اعتبار، والسياسةُ الأمنية المعتمدة على العَصَا لِمَن عصا أثبتَتْ فشلها بامتياز غير مشرِّف.

4) العملَ بإخلاص على جَمْع كلمة الشعوب، وجَمْع كلمة الأمة على القواسم المشتركة التي لا يتناطحُ عليها عنْزَانِ.

5) العملَ بإخلاص على نشر العلم والوعي بالمخاطر، مع العزّم الأكيد والجادِّ على القضاء على كُلِّ المفاسد الاجتماعية مهما كان أصحابها.

6) نشرَ العدالة النزيهة بجَعْل القضاء فوق كل الشبهات والتدخلات.

7) ترسيخَ مبْدإ التداوُل للسلطة وكل المسؤوليات في ضمائر الشعوب وأعْرافها وثقافاتها وأخلاقها ودِينِها.

تلك بعْضُ المتطلبات الظرفية العامِلة للوقوف في وجه الهجمات الشرسة لمخططات الأعداء الماكرة، والمطبوخة على نار هادئة، من أزمنة بعيدة، فالشدائد والمِحَنُ كلها خيرٌ وبركَة للصابرين المحتسبين، وإنما الفِتْنة الحقيقيّةُ فتنةُ الإغراء والطمع والرخاء، وصدق الله العظيم الذي يقول : {ونَبْلُوكُم بالشّرِّ والخَيْرِ فتْنة وإِلَيْنا تُرْجَعُون}(الأنبياء : 35)، {ولنَبْلُونّكُم حتّى نعْلمَ المُجاهِدِين والصّابِرِين ونبْلُو أخْباركُم}(محمد : 32)، وقال  : “واللهِ ما الفقْرَ أخْشى عليْكم، ولكِنّي أخْشَى عليْكُم أن تُبْسَطَ الدُّنْيا عليْكُم فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتُهْلِكَكُم كمَا أهْلَكَتْهُم”(متفق عليه).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>