سكْرة الحُكْم والمنصب هي الموت الزؤام :
الحُكْمُ في الإسلام تكليفٌ لا تشريف، وأمانة ومسؤولية يحاسَبُ عليها الحاكِمُ في الأخْرى حساباً عسيراً إذا لَمْ يجدْ في الدنيا من ينصَحُه ويُرشِدُه، أو لمْ يجدْ من يُحاسِبُه ويوقِفُه عند حدِّه لطغْيانه وشِدَّة بَطشه، فما أتْعَسَهُ -إذَا علاَ واسْتكْبَر وسَكِر بحُبِّ التسلُّط- يوْم يقِفُ بيْن يدَيْ الله تعالى فيُسْأل عن الصغيرة والكبيرة، وعن الإنسان والحيوان، وعن الأرض والمكان، وعن الأرْواح والأبْدان، فلا يَجِدُ من كُلِّ ذلك شهيداً له، وإنما يجدُ الكُلَّ يشهَدُ عليه بالإجْرام، فيُسْحَبُ على وجْهِه في مقَامات الخِزْي والإذْلاَل، ويقالُ له {ذُقْ إنّك أنْتَ العزيزُ الكريم} استهزاءً واحْتقاراً :
أ- لأنه حوَّلَ كُرْسِيّ الحُكم من أداة لخِدْمة الناسِ إلى أداة لاستعباد الناس.
ب- ولأنه حوَّل الكرسيّ من أداة لحِرَاسة الإيمان ورعايته و تنْميته إلى أداة الحراسة الإلْحادِ والنفاقِ والفسوق والفجور.
حـ- ولأنه حوّل الكرسيّ من أداة لحراسة الفضيلة والعفَّة والنقاء والطهارة إلى أداة لتشجيع الرذيلة والعُهر والمجاهرة بعصيان الله تعالى ورسوله .
د- ولأنه حوَّل الكرسي من أداة للدّعوة لدين الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة إلى أداة لمحاربة كُلِّ من يجْهرُ بالدّعوة أو يومن بها على أنها سفينةُ الإنقاذ.
هـ- ولأنه حوّلهُ من أداة لجمع كلمة المسلمين على طاعة الله تعالى وتنفيذ شرعه إلى أداة لتلْغِيم السّاحَة بالأهواء الجامحَة، والعصبيّات المُنْتِنة التي تُفَرِّق ولا تجْمعُ، وتزْرَع الضغائن والأحقاد بدَل التآخي والتوادِّ.
و- ولأنه حوّلهُ من أداة لحراسة الأوطان، وصيانة الشعوب، وعضِّ النواجذِ على قضاياها الكبرى والصغرى إلى أداة للتفريط في الأوطان وبيْع قضاياها الكبرى والصغرى للأعداء في المزادات السريّة والعلانية بدون خجل ولا وجَل.
تلك السكرة المؤدية إلى المصائب العظمى المشار إليها هي السببُ الرئيس في غفلة الأمة عن رسالتها غفلة تشبه الموتة الصُّغْرى -إن صح هذا التعبير- لأنها غفلةٌ فُرضَتْ بالحديد والنار، والجهْل الصارخ بالوحشية والهمجية، والهوى المُسلَّح بالغزو الفكري والثقافي والخلقي والانهيار التخلُّفِيّ الذي لا يقود إلا إلى الهاوية، هاوية الخداع لله وللناس، هاوية الكذب على الله والناس، هاوية الارتزاق بالدين، والمتاجرة بالعرض والقيم والمبادئ، هاوية التبعية الذليلة لمن يَقْصِف الدِّين، ويُدمِّرُ روح الأمة.
خاتمة موقظة لمن يتدبرها :
إذا كان الله تعالى أخبرنا بالفرح الأكبر الذي يُعْلِنُه الفائزون برضوان الله تعالى يوْم يلقَوْنه، فيأخُذُون كُتُبهُم بأيمانهم، فيقول كُلُّ فائز منهم هذا الفوز العظيم : {هَاؤُمُ اقْرأُوا كِتابِيّه إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسَابِيّه}(الحاقة : 18- 19) فإن زعيم النظام العالميِّ المنسَحِب في أوائل سنة 2009م سلَّط على المسلمين في أواخر حياته السياسيّة منْ يُمَرِّغ كرامَتَهُم في التراب بتدمير أرض مسْرى نبيِّهم، عُنوان شرفهم، ورمْز مجدهم وعظمتهم، ليقول للعالم بصفة عامة، وللمسلمين بصفة خاصة : >هاؤُم اشْهَدُوا أعمالية المجسِّمة لأحقاديّة< فإني لا أبالي لا بالقيم السماوية، ولا بالقيم الأرضية، ولا بالقيم الإنسانية، ولا بالأمة المسلمة الغثائية.
فليس الناسُ كلُ الناس من الغباء بحيث يظنون أن تَدْمير غزة كان بدون رغبة من السيِّد العالمي الكبير، وبدون علمه وموافقته، فعلام يَدُل هذا التوافق العجيب بين السيد الكبير وأسيادِ أوروبا الإمَّعات والأداة الطيِّعة المنفذة للخطة المُحْكمة؟! يدُلُّ على شيء واحِدٍ أخبر به القرآن منذ أزيد من أربعة عشر قرنا، حيث قال : {إنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُم لا يَرْقُبُوا فِيكُم إلاًّ ولا ذِمّة}(التوبة : 9) وهُم إذْ يفعلون ذلك فإنما ينفِّسون عما تضمِرُه صدورُهم من الأحقاد التي بيّنَها الله تعالى لنا عندما قال : {لاَ يَالُونَكُم خَبَالاً ودُّوا ما عنِتُّم قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِن أفْواهِهِم وما تُخْفِي صُدُورُهُم أكْبَرُ قَدْ بيَّنا لكُم الآياتِ إنْ كُنْتُم تعْقِلُون}(آل عمران : 118) ولكن أيْن هِي العقولُ الواعية؟! والبصائر النيرة؟!
فقد هدّم -في أول عهده- أفغانستان ولا من يتعظ؟! ثم ثنًّى بالعراق ولا من يتَّعظ؟! ثم ثلّت بالصومال ولا من يتعظ؟! وكان في الطريق لأن يربِّع بسوريا، ويخمِّس بالسودان لولا لُطْف الله ورعايتُه للبقية الباقية من الذين يقولون ربنا الله؟!
أمّا فلسطين فقد ابتلعَها سلَفُه وجاء هُو ليجهِزَ عليْها بالقَضْم والهَضْم حتى تُصْبح أثراً بعد عَيْن، ولكن آيات الله عز وجل تتجلَّى وقْتَ إطْباقِ الظلام، فتُلقنُ للطغاة الدروسَ العِظام، فقد مات السيدُ الكبير سياسيّاً، وانتعشتْ فلسطينُ والشعوبُ المحبّة لها إيمانيّا، وتصديقاً يقينيّاً لوعْد الله المسطور في كتابه وسُنّة نبيّه.
>التدْمِيرُ للذاتِ وللأوْطانِ وللشعوب والأمّةِ مسْؤُوليةُ من؟!
يخطئ الخطأ الكبيرَ من يَظُن أن تدْميرنا يتِمُّ بيَد أعدائنا في الدرجة الأولى!! كلا فتدميرنا يتم بأيْدي المتآمرين والمتواطئين والمتهاونين والمنافقين من أبناء أمّتنا، سواء كانوا مسؤولين، أو عُملاءَ مخبرين، أو مثقفين مغزوِّين فكريا وأخلاقيا، فمَنْ هلَّل لتدمير أفغانستان؟! وشوّه سمعتها؟! ومن فتَح الأراضيَ والبحار والأجواءَ لدخول القوة الغازية لتدمير العراق؟! ومَنْ صمَتَ صمْت القبور إزاء ما حدَث ويحْدث في فلسطين الصامدة؟!
إن الله تكفَّلَ بحماية المومنين والدفاع عنهم ونصْرهم أمامَ أية قوة عاتية، ولكن بشرط أن ينصُروا الله، ويعْملوا على إعلاء كلمته وأداء رسالة دينه؟! أمّا عندما يتخلَّوْا عن نُصرة الله تعالى، ويضَعُوا أيديَهم في يد العَدُوّ الذي يحارب دينهم، فإن الله عز وجل يتخلى عنهم ويكِلُهم إلى أنفسهم، إذن فالمصائِب تَأتِينا من داخل أنفسنا الخوّارة، وذاتيتنا المنهارة!!
قِمَمٌ تطحن الهواء وتعجن الهباء :
منذ ابتدأ غزو غزة والقِمَمُ الصُّغْرى، والمتوسطة، والكبرى تنْعَقِدُ، ولا شيء بعد ذلك، لأن كبارنا يجتمعون ليتراشقوا ويتفاضَحُوا ويتفاخَرُوا بألْقابهم وطولِ تاريخهم المَديد في القمْع والبطش والتنكيل بمن يرْفع رأساً للنصح والإرشاد. أو المعارضة والتنديد، كأن ذلك شهادةٌ لهم بحُسْن السِّيرة، وطِيب العشرة، عِشرة الشعوب والأفراد والأسر، وعِشرة الأحزاب المتنوعة، وعِشرة الاهتمامات المعشِّشة في صدور المكلومين والمظلومين والمحرومين!!
وماذا بعْد التراشق والتفاصُح والتفاخر؟! لا شيء!! غزةُ هُدِّمتْ ودُمِّرت، ومازالت مُدمَّرة! ولا شيء في الأفق يشِي بالتصْميم على ابتداءِ الإعمار!! غزَّة حوصرتْ ومازالت محاصرة، ولا شيء يشي بالتصميم الجادّ على فك الحصار!! الفلسطنيُّون منقسِمُون على أنفسهم لتبايُن الولاءات والانتماءات، ولا شيء يَشِي بالتصميم الجادِّ على رَدْم الهُوّة بيْنهم بتدْليلهِم على الطريق الجامع، طريق الاعتصام بالحبل المتين، حَبْل اللّه القويّ العزيز الجبار الذي يرْعَى من تمسّك بحبْله رعاية كاملة، إيواءً، وتنويراً وتبصيراً، ونصْراً وتمكينا، وإخزاءً للعدُوّ وتوْهينا.
> هلْ للَيْل القِمَم الدائرة في مكانِها من صبَاح؟!
إن العَالَم يتغَيَّر بسرعة مذهلة تهدِّد بدُون شكٍّ الواقفين في أماكنهم، والدّائرين في أحلامِهم الموروثة من عهد القَرن الماضي، بل الموروثة عن عَهْد قرون الجُمود، وقُرون الإقطاع، وقرون التّألِيه للفرد والتسبيح بحمده، وحمْد سُلاَلَته ورائحةِ أعْراقِه… فهؤلاء الواقفون والحالمون سينتَحِرون عاجلا أم آجلا إذا لم يتحرَّكُوا استجابة لمتطلّبات العصْر، ومتطلّبات الطموحات الشّعبية الزاحِفة في كُلِّ ميْدان، وخصوصاً ميدان التداوُل للمسؤوليات الكبرى والصغرى، وميدان التجدُّد والتجديد للأفكار المُجدِّدة للهِمَم، والمجدِّدة للطاقات، والمجددة للعزائم القادرة على مواجهة التحديات، فقد ذهَبَ عهْدُ العَضِّ بالنواجِذ على الكرسيّ إلى يوم نزُول مَلك الموت الذي يتولَّى التجديد رَغْم الأنوف.
إن العالم كُلّه عرف طُرُق التّغيير، وطرق التجديد للحياة، والأفكار، والتخطيطات، والتصميمات، والسياسات، والتنظيمات، والوسائل، والمشروعات، والخطابات، إلا عالمنا الذي يدور في حلْقةٍ مُفرغة، لا توقظهُ فِتَنٌ داخليَّةٌ، ولا هزاتٌ عالميَّةٌ، ولا ضرباتٌ حديديّة، ولا فضائح مُدويّة. فهو أصمُّ أعْمى، لا يسْمع ولا يبصر ولا يفقَه مستقبل الشعوب، ولا مصالح الأمة المطوَّقة برسالة ربّانية إذا لمْ تَقُمْ بها تعرضَتْ للموت والسّحْق والإذلال.
فمن كان يُصَدِّق :
> أنّ مصطلح >الإرْهاب< الذي أنْشأَه زعيمُ النظام العالميُّ السابق ليحارب به الإسلام والمسلمين اختفى نهائيا من لسانِ خلَفِه، وإن بقِيَ الأزلامُ يلوكُونه بدون وعْي وتدبُّر.
> وأنّ لُغة الحرْب الصليبيّة، ولغة >منْ لَيْس معنَا فهو ضِدّنَا< ماتتْ أيضا، وحلَّ محلَّها لغاتُ التحاوُر والتعايش، ولغاتُ الاستماع والمناقشة بدَلَ لغاتِ الأمْرِ المفروض.
> وأن دَولة إسلامية مثل تركيا -لدمقراطيتها- تعْتَرض على تولِّي رئيس الوزراء الدنماركي السابق قيادة الحلف الأطلسي لعَدَم اعتذاره عن إساءة بلده لنَبي الإسلام بالرسوم الكاريكاتورية، فيشترك زعيم النظام العالمي الجديد ورؤساء أوروبا في استرضائه وتطييب خاطره بالوعُودِ المُرْضِيَة.
> وأن زعيم النظام العالمي ومبعوثي أوروبا أصبحوا مقتنعين تمام الاقتناع بأنَّهُ لا علاج للقضية الفلسطينية بدون (حماس) الناجحة ديمقراطيا نجاحا لا غُبار عليه، يقع هذا في الوقت الذي يتنكّرُ لها جانبٌ من حُكّام فلسطين، وغالبيّة الدُّول العربيّة، ألَيْس هذا من المضحكات المُبْكيات؟! فهل ننتظر أن تُشْرق علينا شموسُ الإسلام من أوروبا وأمريكا حتى نقتنع بأن الإسلام دينُنَا، وأصالَتُنا، وعزتُنا، وهُويّتُنا، فإمّا أن نشْرُف به، وبرسالته، أو ينْقُل الله عز وجل هذا الشرف لغيرنا بعد سحْقنا واندثارنا؟!
واقِــيـاتُ الفِـتَن والــزلازل الاجتماعيّة والسيّاسيّة :
إن إ شراقة شمس الانعتاق مِن القَوالب المحنّطة التي وضع كبارُنا أنفسهم فيها تحتاج إلى استئصال أمراض خطيرة على رأسها :
أ- تجهيلُ الشعوب بالإسلام روحاً، ونصّاً، وتشريعا، وخُلُقا، فضرْبُ الحصار على الإسلام مرَض عُضال يجب استئصاله بتعليم الإسلام على نطاق الفرد، والأسرة، والمجتمع، في المدرسة، والمسجد، والجامعة، وكل المرافق والمؤسسات، على أساس أنه قدَرُنا ورسالتنا بها نكون أو لا نكون.
ب- المتاجرة بالإسلام على مستوى المسؤولين الكبار والصغار، وعلى مستوى المرتزقة المتملقين، فالإسلام دين أجْرُه يُؤخَذُ من ربِّ الدين دنيا وأخرى.
حـ التعصُّب سواء كان للعرق، أو للنسب، أو للمذهب، أو للفرقة، أو للحزب.. مرض فتّاك شَطَّبَ عليه الإسلام تشطيبا كاملا بقوله تعالى : {إنّ أكْرَمَكُم عِنْد اللّه أتْقَاكُم}(الحجرات : 13).
د- القفز على الحُكْم وكُلّ المسؤوليات بطرق غير شرعية، فهذا المرض تطهّر منه الكفار، فكيف يتنجّس به من ينتمون للإسلام.
هـ- الاغتناء بطرق غير مشروعة، فالمال الحرام لا يُبَارك فيه اللّه تعالى، بلْ الكسب الحرام سبَبُ الخراب والدّمار {وإذَا أرَدْنا أن نُهْلِك قرْيَةً أمرْنا مُتْرَفِيهَا ففَسَقُوا فِيها فحَقَّ عليْها القوْل فدمّرْناها تدْمِيراً}(الإسراء : 16).
و- تكميم الأفواه وإخراسُ الألسنة عن الجهْر بالحق، والأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا خير في أمّة لا يتناصحون، بل الأمّة الخرساء ملعونة {لُعِن الذِين كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرائِيل على لِسَان دَاوُود وعِيسَى بْن مرْيَم ذَلِك بما عَصَوْا وكَانُوا يعْتدُون كانوا لا يتَنَاهَوْن عن مُنْكَرٍ فَعَلُوه لَبِيسَ ما كانُوا يفْعَلُون}(المائدة : 81).
هذه بعض الأمراض التي يجب أن تُستأصَلَ حتى لا تعُمَّنا جائحةٌ تمسخُنَا مسخاً، وتمحقنا محقا {قُلْ هُوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عليْكُم عَذَاباً مِن فوْقِكُم أو مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُم أوْ يَلْبِسَكُم شِيَعاً ويُذِيقَ بعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لعَلَّهُم يفْقَهُون}(الأنعام : 65).