الإسلامُ أرْسَى المبادئَ والأُسس العامة التي على المسلمين بصفتهم أمةً أن يسيرُوا عليها في نطاق الأهداف الكبرى المرسومة للأمة تمييزاً لها عن غيرها، وفي نطاق التعامُل الدّاخليِّ بين الأفراد والأسر والمجتمعات والشعوب، وفي نطاق التعامل الخارجيِّ بين مختلف المِلَلِ المخالفة لنا ديناً وتوجُّهاً، وفي نطاق التحاكُم إلى المرجعية الفاصلة عند الاختلاف.
ففي نطاق الأهداف الكبرى التي على المسلمين أن يسيروا على ضوئها يمكن تلخيصها في ثلاث قواعد كبرى :
أوّلها : تكبيرُ الله عزوجل وحْدَهُ : لقول الله تعالى لرسوله وللمومنين في أول الآيـات الدّعوية النازلة {ورَبَّك فكَبِّرْ}(المدثر : 3) فإذا كان العديدُ من غير المسلمين يكبِّرون الحجر، أو القمر، أو الشجر، أو البقر، أو البشر، فكل ذلك من مخلوقاتِ الله تعالى التي مصائرُها بين يديْه سبحانه وتعالى فهي لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا ضراً، ولذلك كان الله عز وجل أكْبَرَ من كُلِّ من يُتوهَّم أنّه كبيرٌ، فلا أحدَ أكبر من الله حُكماً وحِكمة، وعلْما وقدرةً وقيُّومِيّة للكون كُله، وإحاطةً بالسرائر والمضْمرات، وعدْلا في الميزان يوم الحساب… هذا الهَدَف الكبيرُ إذا وقَع التفريط فيه انْهار كُلُّ شيء أخلاقاً وسلوكاً، وسياسةً، وتعليماً، وميزاناً، وتعامُلاً مع الداخل والخارج.
ثانيها : تطبيقُ حُكْم الله وشرْعه : لقول الله تعالى : {وما كَانَ لمُومِنٍ ولا مُومِنةٍ إذَا قَضَى اللّه ورسُولُه أمْراً أنْ تَكُون لهُم الخِيَرَةُ من أمْرِهِم}(الأحزاب : 36) فلا تكْبير لله حقا مع تطبيق أهواء البَشَرِ شرقاً كانوا أم غرْباً، مفكِّرين كانوا -زعْماً- أم حَاطِبين ليلا، حُكّاماً كانوا أم رعاعاً. فالكُل لا يتعدَّى في أهوائه المقنّنة مصالحَه الخاصة، ومصالح فئته وحزبه، والله عز وجل وحده منزهُ عن الأغراض والمصالح.
ثالثها : الولاء لله والرسول والمومنين {إنّما وليُّكُم اللّه ورسُولُه والذِين آمَنُوا الذِين يُقِيمُون الصّلاةَ ويُوتُون الزّكاة وهُم راكِعُون}(المائدة : 57) فلا ولاءَ لمذاهب كفرية أو نفاقية، ولا ولاءَ لمذاهِبَ بشرية ولو كانتْ من المرقَّعَاتِ المنتسبة للإسلام التي من شأنها أن تجعل من الأمة فِرَقاَ وطوائفَ وشيعاً متناحرة متدابرة.
أمّا في نطاق التعامُل الداخلي فيحكمُه نصَّانِ مُحْكَمان هما قول الله تعالى {إنَّما المُومِنُن إخْوةٌ}(الحجرات : 10) {والمُومِنُون والمُومِناتُ بعْضُهُم أوْلِيَاءُ بعْض}(التوبة : 72) فالمومنون كلهم مُحاسَبون على التفريط في مبْدإ الأخوة الإيماني رعايةً ومحبةً ومُنَاصرةً وتضحيةً وإيثاراً.
وأما في نطاق تعامل الأمة مع غيرها من خارج دينها وملتها فالإسلام صنَّف الخارجين عن الملة إلى نوعين : نوعٍ مسالم، ونوعٍ معادٍ محارب. فأما النوع الأول المسالم فله كُلُ الإكرام والاحترام والتعامُل الحسن في كل المجالات قال تعالى : {لا ينْهاكُم اللّه عنِ الذِين لمْ يُقَاتِلوكُم في الدِّين ولم يُخْرِجُوكم من دِيَارِكم أن تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إلَيْهم إنّ اللّه يُحِبُّ المُقْسِطِين}(الممتحنة : 8) أما النوع الثاني المعادي والمحارب والمتآمر على الإسلام والمسلمين فقال فيه عز من قائل : {إنّما ينْهاكُم اللّه عن الذِين قاتَلُوكم في الدِّين وأخْرجوكُم من ديَارِكم وظَاهَرُوا على إخْراجِكُم أن توَلَّوْهُم ومَنْ يتَوَلَّهُم فأُولَئِك هُم الظّالِمُون}الممتحنة : 9).
وهؤلاء المعادون الذين يقاتلوننا في الدين تهديماً لبيوتنا واستعماراً لأرضنا سمّاهم الله عز وجل بالكافرين، فقال : {بشِّر المُنَافِقِين بأنّ لَهُم عَذَاباً ألِيماً الذِينَ يتَّخِذُون الكَافِرِين أوْلِياءَ مِن دُونِ المُومِنِين}(النساء : 138) وسماهم بالمشركين فقال : {فإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكِين حيْثُ وجَدتُمُوهُم وخُذُوهُم واحْصُرُوهُم واقْعُدُوا لَهُم كُلّ مرْصَدٍ}(التوبة : 5) وسمّاهم أعداءه بدون وصف فقال تعالى :{يا أيُّها الذِين آمَنُوا لا تتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُم أوْلِياء}(الممتحنة : 1) وسمّاهم أهل الكتاب بصفة عامة، أو اليهودَ والنصـارى بصفتهم الخــاصة، فقال : {يا أيُّها الذِين آمَنُوا لا تتَّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أوليَاءَ بعْضُهُم أوْلِيَاءُ بعْضِ}(المائدة : 53).
وأخبرنا الله تعالى عن دخيلة وسريرة هؤلاء الأعداء بأية صفة كانوا فقال : {ما يَوَدُّ الذِين كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِين أن يُنَزَّل علَيْكُم من خَيْرٍ من ربّكُم}(البقرة : 104)، وقال في دخليلة وسريرة اليهود والنصارى على الأخص {ولنْ ترْضَى عنْكَ اليَهُود ولا النّصَارَى حتّى تتّبِع مِلّتَهُم}(البقرة : 119).
وبيّن لَنا بوضوح غاياتهم حين مقاتلة المسلمين، وأخلاقَهم الملتصقَة بهم حين الصدام، فقال : {وإِنْ يَظْهَرُوا عَلىْكُم لا يرْقُبُوا فِيكُم إلاًّ ولا ذِمَّة}(التوبة : 8) وقال : {لا يرْقُبُون فِي مُومِنٍ إلاّ ولا ذِمَّةً وأُولئِك هُم المُعتَدُون}(التوبة : 15) فهم يقاتلون بحقدٍ أسودَ وضمير ميت لا يراعون حقوقَ الإنسان، ولا حقوق الحيوان، ولا حقوق الأطفال، ولا حقوق النساء، ولا حقوق العجزة، ولا حقوق البيوت والمؤسسات، ولا حقوق المستشفيات، ولا حقوق المقابر والأموات، ولا حقوق البيئة وحقوق الأحجار والأشجار، ولا حقوق القوانين الإنسانية والدولية.. فهم لا يخاصمون من أجل غاية شريفة، أو مكْرُمة مأثورة، ولكنهم يقاتلون من أجل السيطرة على كل خيرات المستضعفين في الأرض، وإسكات كُلِّ صوتٍ يعْلُو لِنُصْرة الحق السياسي، أو الحق الاجتماعي، أو الحق العلمي والتعليمي، أو الحق العسكري والإعدادي… فهم يريدون احتكار كل شيء حتى عقول الإنسان وتفكيرَه وضميرَه وخُلقَه وهُويّته وعزته وكرامته.
لهذه الغايات الخسيسة، ولهذه الأخلاق الخبيثة.. نهانا الله عز وجل :
1) عن موالاتهم : فقال {ومن يتَوَلّهم منْكُم فإنّه منهم}(المائدة : 53).
2) ونهانا عن محتبهم : فقال : {لا تَجِدُ قوْماً يُومِنُون باللّه واليَوْم الآخِر يُوَادُّون من حادَّ اللّه ورسُولَه}(المجادلة : 21).
3) ونهانا عن اتخاذهم بِطانةً: أي يتولّوْن الأمور الداخلية التي تُتيحُ لهم الاطلاع على عورات المسلمين وأسرارِهم العسكرية والأمنية والسياسية، فقال تعالى : {يا أيُّها الذِين آمَنُوا لا تتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكُم لا يَالُونَكُم خَبَالاً ودُّوا ما عَنِتُّم قَدْ بَدَتِ البغْضَاءُ مِن أفْواهِهِم وما تُخْفِي صُدُورُهم أكْبَر قَدْ بَيّنَا لَكُم الآيَاتِ إنْ كُنْتُم تعْقِلُون}(آل عمران : 118).
4) ونهانا عن التحاكم إلى قوانينهم : فقال تعالى : {أفَحُكْم الجَاهِلِيّة يبْغُون}(المائدة : 52) وكلُّ شريعة غير شريعة الإسلام تعتبر جاهلية سواء كانت شرعية محلية أو دولية، لأن شريعة الإسلام تُغَطي كُلَّ المجالات.
ويدخل في حكم الجاهلية اتباع الجُهلاء والملعونين والضُّلاَّل في عوائدهم وأخلاقهم كتقليد اليهود والنصارى والمجوس في فواحشهم وخبائثهم من مثل شرب الخمر، وإباحة الجنس في غير الزواج، بل وإباحة الشذوذ الجنسي، ألم يقل الرسول >لتَتَّبِعُنّ سَنَنَ الذِين مِنْ قَبْلِكُم شِبْراً بِشِبْرٍ، وذِراعاً بِذِراعٍ، حتَّى لوْ دَخَلُوا في جُحْرٍ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُم<(متفق عليه).
أما في نطاق التحاكم إلى المرجعية فيحكمه النصّ القرآني المحكم : {فإنْ تنَازَعْتُم في شَيْءٍ فرُدُّوهُ إلى اللّه والرّسُول إِنْ كُنْتُم تُومِنُون باللّهِ واليوْم الآخر}(النساء : 58).
إن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى ولم يُوصِ لأحدٍ بالحُكْم من بعده لتبقى مسألةُ الحكم شورى بين المسلمين يُولُّون عليهم خيارَهُم، فإذا اخْتَلَفَ الخيار الأبرار في قضية من القضايا تولّى العلماء المجتهدون استنباطها من الكتاب والسنة، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون.
إلا أن الحكْم في العصر الأموي أصْبح متوارثاً في الأُسَر التي توارثتْه بقوة السَّيْف والغلبة، وعندما تغلبت عليها الأسرة العباسية ذهبتْ نفس المذهب، وكذلك فعل من جاء بعدها.
لكن المشكلة الكبرى هو أن الكُرسِيَّ أصْبَح معبوداً من دون الله تعالى، فلذلك رأينا تاريخيا :
> الدولة العباسية في الشرق تُهادي شرلمان ملك فرنسا ليضيق الخناق على الدولة الأموية بالأندلس، ورأينا بالمقابل الدولة الأموية بالأندلس تربط العلاقات الطيبة مع الدولة البيزنطية لتضييق الخناق على العباسيين.
> ورأينا ملوك الطوائف بالأندلس يستعينون بالنصارى لقتال بعضهم بعضاً حتى ضيعوا الأندلس نهائيا، ولم يبق لواحد منهم أثر هناك.
وبالتخاذل والتواطؤ مع الأعداء من أجل الكرسي ضاعتْ بلادٌ إسلامية كثيرة في أوروبا وإفريقيا وآسيا.
والآن جاء دور فلسطين التي أصبحت بين تياريْن : تيار وضع يَدَه في يَد المغْتَصِبِ المحتلِّ ومَنْ يسانِدُه من كبار الظالمين المعادين لكل الحقوق الفلسطينية والمؤيدين للمحتلِّ مهما فعَل من الأفاعيل الإجرامية.
هذا التيار أحبَّ المحتلّ وسالَمَه ووثق به غير مبالٍ بالنصوص القرآنية الصريحة في مساندة الأخ المسلم ومناصرته لاسْتِرْداد حقه، لأنه يمارسُ السياسة التي يزعُمُ أنها لاعلاقة لها بالدِّين نهائيا، فمصير هذا التيار مرْهُونٌ بفكر الأجنبيّ وسياسته، وكُرسيُّه مضمون بالبطانة الأجنبيّة والاستخبارات والاستشارات المتربية في أحضان الاستعمار العالمي الذي أعْلَن عِدَاءه ومحاربته للإسلام والمسلمين صراحة وبدون مواربة أو مداورة، فهذا التيار محبوس في خندقٍ لا يستطيع القفز عنه، وإلا ضاع كرسيُّه المعبود، وضاع مستقبلُه الدنيويُّ المحدود، لأن إرادتَه بيد غيره.
أما التيار الآخر فوضع يَدَه في يدِ اللّه تعالى، وتخندق في خندق التوكُّل على الله عز وجل، والاعتماد الكلي عليه، متحملا ما تحمَّلَه الرسُل وكُل المجاهدين المحافظين على حقوق الأمة، وحقوق أوطانها، غير مبالين بعداوة الأعداء ومن تواطأ معهم، فهؤلاء يرَوْن أنّ ضياعَ فلسطين بأرْضِها وناسها ولاجئيها وقُدْسها جريمة كبرى لا يستطيعون الوقوف أمام الله تعالى يوم القيامة بوجْهٍ وقَلْبٍ شارَك في التفريط فيها، أو بَيْعِها، أو السُّكوت عمَّا يُدَبَّرُ في العَلَن والخفاءِ لها، فالإعذَارُ إلى الله تعالى بالاستشهاد في سبيل المحافظة على أرض الإسراء وأرض الأنبياء التي بارك الله فيها أهْوَنُ مِن العيْش الذليل، والمآل الوبيل.
هذا هو العَطب الذي أصاب الأمةَ قديما وحديثاً، ولا سبـيل إلـى إصْـلاح هذا العطب :
1- إلا بالتوحُّد على كتاب الله تعالى وسنة نبيه.
2- وإلا باعتبار السياسة من صُلْب الدين، فما أنزل الله الكتاب وبعث الرسل إلا لتعليم الناس السَّىْرَ الرشيد في الحياة الدنيوية لضمان المستقبل السعيد في الحياة الأخروية.
3- وإلا باعتبار الحُكْمِ أمانةً ومسؤوليةً ُتمنح للزاهدين فيه من الأمناء الأتقياء الأكفاء.
4- وإلا باعتبار الحُكم وسيلة للتمكين لدين الله تعالى وإقامةِ حجة الله تعالى على العالمين.
5- وإلا بالتقيُّد بنصوص الكتاب والسنة ولاءً وبراءً على أساس أن الله عز وجل هو الأعْلَمُ والأحكَمُ فيما أخبرنا به من أسْرارِ ومُضْمَرات ومكْنونات المتآمرين من الأعْداء.
6- وإلا باعتبار علماء الأمة وأتقيائها وأبرارها ومجتهديها هم أولوا الأمر وأصحاب الرأي فيها، فما رأوْه حسناً في السياسة والحكم والاقتصاد والسلم والحرب هو الحسن عند الله، وما رأوه قبيحا فهو القبيح، لأنهم ينظرون إلى كُلِّ الأمور، بإخلاص وتجردٍ عن كل الأهواء الأرضية والشخصية.
إن نفْعَلْ هذا انْجبَر كسْرنا، وانْصَلَح عطبنا، وإلا أصبحْنا هباءً تذروه الرياح، {ولاَ تَنازَعُوا فتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(الأنفال : 47).