تـعـقيـبـات وتـوضـيـحـات :
1) الميزة الكبرى لرسالة الرسول الخاتم هي العالمية :
فجميع الرسل السابقين أرسلوا لأممهم وأقوامهم خاصة كما قال تعالى : {ولكُلّ أمّةٍ رسُول فإذاجاءَ رسُولُهم قُضِيَ بَيْنَهم بالقِسْط وهُم لا يُظْلَمُون}(يونس : 47)، فهذا نوح عليه السلام يقول فيه الله تعالى : {ولقَدْ أرْسَلْنا نُوحاً إلى قوْمِه إنِّي لكُمْ نَذِيرٌ مُبِين ألاّ تعْبُدُوا إلاّ اللّه}(هود : 26) وكذلك هود عليه السلام {وإِلى عادٍ أخاهُم هُوداً قال يا قوْم اعْبُدُوا الله ما لَكُم من إلهٍ غَيْرُهُ}(هود : 50)، وكذلك الشأن بالنسبة لصالح عليه السلام : {وإلى ثمُود أخاهُم صالِحاً قال يا قوْمِ اعْبُدوا الله ما لَكُم من إلهٍ غيْرُهُ}(هود : 60).
أما الرسول الخاتم عليه السلام فقال له {قُلْ يا أيُّها النّاسُ إنِّي رسُول اللّه إليْكُم جمِيعاً الذِي له مُلْك السّماوات والأرْض لا إِله إلا هُو يُحْيِي ويُمِيتُ فآمِنُوا بِاللّه ورسُولِه}(الأعراف : 158).
ولعموم رسالة محمد فتح الله عز وجل المجال أمامه واسعا، فقال له : {فإنْ يكْفُر بِها هؤُلاَءِ فقَدْ وكّلنا بها قوْما ليْسُوا بها بكَافِرِين}(الأنعام : 90) ومن هنا عندما انسدّت أبواب الدّعوة في قريش وحوصرت حصاراً تاماً، فلم يبق أحدٌ من المستضعفين قادراً على أن يدخل في هذا الدين الجديد على إثر موت أبي طالب، وموت خديجة رضي الله عنها، فكّر في نقل الدّعوة إلى جهة أخرى، فسافر إلى الطائف علَّهُ يجد نصيراً.
2) الطائف كانوا أسفه من قريش :
عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي : >هَلْ أتى عليْك يوْم كان أشَدّ من أُحُد<؟! قال : >لَقَد لقِيتُ من قوْمِكِ ما لَقِيتُ وكان أشدّ ما لقِيتُ منْهُم يوْم العَقَبَة إذْ عرَضْتُ نفْسِي على ابْنِ عبْدِ يالَيْل بْن كُلال، فلم يُجبني إلى ما أرَدْت، فانْطلقْتُ وأنا مهْمُومٌ على وجْهِي فلمْ أسْتفِقْ إلاَ وأنَا بِقَرْنِ الثّعالِب -مكان- فرَفَعْتُ رأْسِي، فإذَا أنا بِسَحابَةٍ قدْ أظلّتْني، فنَظَرْت فإذا فِيها جِبْريل، فنَادَانِي، فقال : إن اللّه قد سَمِع قوْلَ قوْمِك لك، وما ردُّوا عَلَيْك، وقدْ بعَث اللّه إليْك ملكَ الجِبال لتأْمُرَه بما شِئْتَ، فنادَانِي ملَك الجِبال، فسَلَّم عليّ ثم قال : يا محمد، ما شِئْتَ؟! إنْ شِئْتَ أن أطْبِق عليْهم الأَخْشَبَيْن؟! فقال : >بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرج الله من أصْلابِهم من يعْبُد اللّه وحْده لا يُشْرِك به شىْئا<(البخاري).
الـفــوائـــد :
1) قريش هم قومُ الرسول الأقربون : وكانت لهم مكانة ودالّة على العرب كُلّهم، فلو كانوا آمنوا به وعزروه ونصروه لاستطاعوا -بمكانتهم- أن ينشروا الإسلام بين العرب أجمعين، في فترة قصيرة، ولكن الله شاء أن يجعل قومه الأقربين أعدى أعدائه، ثم يجعل قومه الأبعدين -الطائف- أشد عداوة له، ليكون نشْرُ الإسلام على يد قوْم بُعدَاء عن هذا المحيط تماما، يُهيئُهُم اليهود في يثرب بغير قصْدٍ ليكونوا حمَلَة رسالة هذا الدين بغير علم من رسول الله .
وهذا هو الأملُ الذي يجعل الداعية دائما متحركاً بدين الله تعالى ودعوته، قَبِلها من قَبِلها، ورفضها من رفضها، فرَبُّ الدين هو أعْلم بالقوم الصالحين لحمل الرسالة في أول أمرها، والمستجيبين لها عند ظهورها وغلبتها، المُهِمّ لا يأسَ ولا قنوط، ولا كلل ولا ملَل.
2) الاعتمادُ على الله عز وجل وحده مفتاح كل خير للدعوة والداعية :
إن الرسول لمْ يبْق له بعد موْت سندِه الخارجي -أبي طالب- وسنده الداخلي -خديجة رضي الله عنها- من يَبُثُّه هُمومَه وأحزانه ليُسرِّي عنه بعض الشيء… لم يبق له إلا الله تعالى المعتمد الأساسي، والملاذُ الأساسي، ولذلك التجأ إليه وحْدَه بعد ما عاداه الجميع، فتضرع إليه خاشعاً، وقال : >اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي…< فكانت الفتوحات الربانيّة التي تعاقبتْ على الرسول الخاشع المتضرع الخائف من أن يكون قد أغضب ربه بتصرّف غير لائق، فهو نزّه ربّه عن أي نقصٍ ولكنه طلب من ربّه أن يتجاوز عنه إذا كان ما يقع له هو بسبب تقصير منه بدون شعور أو قصد، وتلك أعلى مقام العبودية الخالصة.
3) قلوب الدعاة في الأيام الحوالك تنظر إلى المستقبل بنور الإيمان :
إن يوْم أحُد كان أبلغ إصابة من الناحية الجسمية على رسول الله ، حيث جُرح وسقط في الحفرة، ولكن إصابته من الناحية النفسية كانت أبلغ في الطائف فلذلك لمْ ينْسَها ومع ذلك :
> نرى خلوص قلوب الرسل لله، وامتلاءها بحب الله تعالى، وحب الخير للناس، وحرصهم على هدايتهم لهذا الخير مهما فعلوا.
فامتلاء القلوب بحب الله تعالى وحب رضاه لا يترك فيها أثرا لحُب الانتقام من الناس الجهَلة مهما فعلوا، لأن جَهْلهم الغليظ لم يترك في نفوسهم منافذ لفهم الخير الذي يدعوهم إليه الرسول، فالعفو عنهم وترْك فرصة التأمل والانتظار أحْسن لهم لعلهم يبصرون ويهتدون.
فإذا لم يُبْصِرُوا هُم فلعَل أولادهم يبصرون من بعدهم ويكونون خير جند الإسلام، وخير ناصرين له، وقد أثبتت الأيام والتاريخ أن أجيال الطائف التي جاءت من بعد الأجيال المطموسة البصيرة كانت من خير القادة والجنود الذين أوصلوا الإسلام إلى أقاصي المعمورة خارج الجزيرة العربية.
وهكذا ينبغي للدعاة في كل عصر وحين همُّهُم الأكْبَرُ إرضاءُ الله تعالى، وهمّهم الأكبر بعد ذلك امتلاء نفوسهم بالثقة في المستقبل، وأن هذا المستقبل سيكون لهذا الدِّين في القريب العاجل، أو البعيد الأمَد، لأن هذا الدين هو ملاذ الإنسانية الشقية في نهاية الأمر.
ولهذا يمكن أن نقول بثقة تامة في دين الله تعالى ونصر الله تعالى أن ما يقع بغزة المجاهدة اليوم هو مجرد ابتلاء قاسٍ جدّاً، ولكنه يحمل في طياته الخير الكثير الذي لا يمكن أن يُتصوْر الآن ولا أن يُقدّر، سواء على صعيد التغيير للشعوب، أو التغيير للنظم العربية المهترئة، أو التغيير للنظام العالمي الفاسد والجهول، أو على صعيد التغيير للكثير من المفاهيم والاهتمامات التي غرسها المستعمر في أوصال الأمة وعروقها على مدى أجيال وأجيال.
4) الثقة التامة في نصر الله تعالى لدينه :
لقد قال زيد بن حا رثة ] الذي كان وحده المصاحِب له، عندما أصبح رسول الله راجعا إلى مكة، قال له : >كيف تدْخُل عليهم وقدْ أخرجُوك؟!< -يعني قريشا- خصوصاً وقد خرجْت تطلُب النصرة عليهم -على قريش- فلمْ تُنْصَرْ -يعني من الطائف-؟! فقال : >إنّ اللّه جاعِلٌ لِماً ترَى فرَجاً ومخْرجاً وإنّ الله ناصِرٌ دِينهُ ومظْهِر نبِيّهُ< فبعث إلى الأخنش بن شريق ليجيره، فقال : أنا حليف والحليف لا يُجير، ثم بعث إلى سُهيل بن عمرو، فقال : إن بني عامر لا تُجير على بني كعب، ولكنه بعث إلى المطعم بن عدي قائلا له : أأَدْخُلُ في جوارك؟ فقال نعم. فتسلح هو وأولاده وجاء معه حتى دخل رسول الله مكة، وقال : قدْ أجَرْتُ مُحمّداً فلا يهِجْه أحدٌ منكم، فانتهى رسول الله إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وأولاده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته آمنا مطمئنا<(1).
فكوْنُ رسول الله لم يجِدْ نصرة عند الأخنش بن شريق، وسهيل بن عمرو ليس معنى هذا أن الأمَلَ فُقد، فقد وجدها في النهاية عند المطعم بن عدي، ومعنى هذا اليوم أنه إذا لم توجَدْ دولةٌ -لحد الآن- حاضنة للإسلام حضانة تامةً تربية وإعداداً وتعليماً ودعوة وتبرؤاً من كل اعتماد على قوى الكفر والإجرام، فليس معنى هذا أنه سوف لا توجد في المستقبل، بلى، إن المستقبل حامِلٌ بالكثير من المفاجآت والبشريات.
—-
(1) زاد المعاد 47/2.