حـذاء لا كـالأحـذيـة


لو خير الناس بين قذف مجرم بقنبلة أو عبوة ناسفة تنثر أشلاءه في أطراف الأرض، وبين رميه بحذاء في وجهه كما صنع الصحافي العراقي الشهير، لتوزعوا فريقين، ولاشك، يؤثر إحداهما الصورة الأولى، ويؤثر الآخر الثانية، تبعا للاختلاف في الإدراك والتقدير للمسألة، غير أن التصور العميق والدقيق والتقدير الثاقب يقتضيان، لا محالة، ترجيح الصورة الثانية، لأنها أعمق في الدلالة وأبلغ في التعبير, إنها أعمق في الدلالة على درجة الخسة والحقارة التي تنضح بها نفس الشخص المقذوف، وعلى ما يغص به صدر من حظي بشرف توقيع ذلك الفعل الموحي والبليغ، وكذا على مقدار الخزي الذي يبوء به من وقع عليه الفعل,

شتان بين حذاء أبي القاسم الطنبوري غير المرغوب فيه من صاحبه، وبين حذاء منتظر الزيدي الذي تعلقت به أنظار العالم، وسمت مكانته في أعين العرب والمسلمين قاطبة، لأنه أبرز الفرق الشاسع بين الأحذية الوضيعة والأحذية ذات الشأن الرفيع, فالصنف الثاني يستمد رفعته وشموخه من رفعة صاحبه وشموخه, لقد مثل حذاء الزيدي رمز العزة والإباء، ورفض المذلة والاستجداء، وشخص بكل كبرياء مظهر تكسير القوالب الجامدة والتمرد على الأعراف المحنطة التي تكبل الإرادات وتشل قوى التفكير والإبداع، فقد ألف الناس في مثل المقام الذي اقترنت به حادثة الحذاء، وهو مؤتمر صحافي يحضره” كبار الساسة والزعماء”،أن يسوده جو الهدوء والانضباط، ولزوم ما تقضي به “البروتوكولات”، غير أن الزيدي، حفظه الله، بفعله التاريخي وموقفه المشهود،كان من الذكاء وحرارة الوجدان، بحيث أدرك أن لكل قاعدة استثناء، وأن الجمع الذي كان ينتظمه ليس جديرا بالتقدير والاحترام، إذا ترك مجرم القرن جزار الشعوب الذي يؤطره بصلف وكبرياء،يخرج مزهوا بنجاح رحلته الشامتة بشعب أثخن بالجراح، وفقد كل شيء، إلا إباءه وإرادة الصمود المتغلغلة في كيانه، وكأني بالشاب البطل، وقد بزغت في ذهنه وفارت في كيانه فكرة رجم بوش على رؤوس الأشهاد، يقول، متمثلا قول المتنبي:

النعل أبلغ إيلاما من الصحف

في حده الحد بين الذل والشرف

إن منظر فردتي حذاء الزيدي الشامخ، وهما تحلقان في اتجاه الوجه الشائه، يشكل بحق لوحة رائعة ستحفظ لا محالة في تراث الإنسانية الخالد، ودرسا بليغا في وجه المرتعدة فرائصهم أمام السفلة والأقزام، ممن تقمصوا أدوار العظمة وما هم منها في شيء، تكشف لهم أنهم عبدة أشباح يعرضون أنفسهم للمسخ والابتذال، ويلهثون وراء السراب.

من جهة أخرى، شكلت القذيفة الحذائية في وجه بوش مظهرا احتفاليا مبهجا للعرب والمسلمين، وهم يعيشون في غمرة عيد الأضحى المبارك، فقد انقلب السحر على الساحر، وتحول بوش الطاغية إلى أضحوكة لشعوب الأرض قاطبة، وتحول الحذاء في مخيلته الصغيرة إلى كابوس مرعب، قد يتحول في لحظة من ليل أو نهار إلى شيء آخر، بينما تحول في أعين المسلمين وجميع المستضعفين في الأرض، إلى رمز للإباء وتحدي واحتقار كل متغطرس جبار.

من جهة ثالثة، فقد أبانت ضربة الحذاء الخالدة عن قدرة بوش، فقد أتقن اللعبة وكان بارعا في تحاشي كلا فردتي الحذاء، ومع ذلك فقد كان العرض شيقا وممتعا.

لقد كانت خاتمة تعيسة ومهينة لعهد بوش الممعن في السوء والفساد، من حيث أرادها خاتمة مظفرة، فما أكثرما تخيب حسابات الطغاة المتجبرين.

وبقدر ما كان المشهد ممتعا إزاء الزائر المتلصص، كان كسيفا مخزيا إزاء من أسلموا بطلا مغوارا دفعه حبه المقدس لوطنه ولأمته إلى أن يأخذ لهما الثأر بما يستطيع.

وكم كان رائعا وبالغ التأثير منظر الأم الماجدة وهي تمزج مشاعر الفرح بمشاعر البكاء، عبر زغرودة حارة تحرك الأشجان وتستنهض الهمم، فطوبى لأم منتظر المعطاء،وطوبى للولد رمز الشهامة والإباء.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>