عن المستورد القرشي ] أنه قال عند عمرو بن العاص : سمعتُ رسول الله يقول : >تُقُومُ السّاعةُ والرُّومُ أكْثُر النّاسِ< فقال له عمرو بن العاص : >أبصِرْ ما تَقُول< قال : أقول ما سمعتُ من رسول الله .
قال عمرو بن العاص : لئن قُلْت ذلِك إن فيهم لخِصالاً أرْبَعاً :
> إنهم لأحْلَمُ الناسِ عِنْدَ فتنة.
> وأسْرعُهُم إفاقةً بعْدَ مُصيبة، وفي رواية >وأصْبرُ الناس عند مُصيبة<.
> وأوْشكُهُم كرَّة بعْد فرَّةٍ.
> وخيْرُهم لمِسْكِينٍ وضَعِيفٍ ويَتِيم
> وخامسة حسنةٌ جميلة وأمْنَعُهم من ظُلْم المُلوكِ<(رواه مسلم).
قال بعض العلماء القدماء : هذه الخصال كانت فيهم في الزمن الأول، وإلا فهم الآن شر الناس. لكن بعضَ العلماء المُحْدثين قال : إن الواقِعَ أظهَرَ أن هذه الصفات هي فيهم فعلا، فإنّهم أُمَمٌ مُنْظَّمة دون أهْل الشرق، والواقِعُ فعْلا أنهم ثاروا على ظُلم الكنيسة، وظلم الأباطرة، وقنّنُوا حياتَهم السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، وعرَفوا كيف يكتشفون الكثير من علوم الكون المسخّر للإنسان، يكفي أنك لا تجدُ دَوْلة من دُولهم يسْتطيع حاكِمُها -مهما بلغ نبوغه ونفوذه- أن يُغَيِّر الدستور لتمديد حُكْمِه، ولا يَسْتطيع حتى التفكيرَ في ذلك، فما بالُك بالإقدام على عرْضه على الشعب للاستفتاء، لأن الشعوب بقادتها وقواعِدِها تشرّبتْ الوعْيَ وشؤون تنظيم الحياة، وشؤون تجديدها بتجديد الإنسان، وتجديد الأفكار، وتجديد الأطر، وتشْبِيبِ القيادة والسياسة.
والواقِعُ الحاضِر الذي يشْهد التحركاتِ الدائبة، والتفكيرات المستميتة للخروج من الهَزّة المالية التي أسقطها فيها حُبّ المال، وجعْلُه عجلا معبوداً، وحكمًا فصْلاً في كلِّ شيء. فهذه التحركات خيْر دليل على سُرعة الإفاقةِ بعد المصيبة وسرعة الكرَّة بعد الفرّة.
أمّا إذا نظرتَ إلى جِهَة الدّول الإسلامية فإنك ستجد أكابِرَها نائمين في العَسَل لا يُبَالُون بما يقع، ولا يفكرون فيما سيَقَعُ، وإنما ينتَظرون أن يبتَلعُوا ما طُحِن وخبِز ومُضغَ لهم، رغْْم أن الفرصة الفريدة جاءتهم لكَيْ يُبرزوا ما تشتمل عله محاسِن الشريعة الإسلامية في كل الشؤون، وخصوصاً شؤون المال، وشؤون السياسة ولكن قبَّح الله البَلاَدة البليدَة، والغباوة الغبيّة التي أُصْبِنا بها مُنذ أصبح الحُكْم مغنماً وغايةً، وأصبح ا لمالُ عزّاً وشرفا.
إن الإنسان الغارق في عبادة غير الله كلّه -قديما وحديثا- بليدٌ، والعَربُ كانوا من النوع البليد مثل باقي الناس، ولكن القرآن صنعهم صُنعاً آخر، وجعلَهُم من أعلم الناس، وأفقه الناس بحاضرهم ومستقبلهم، وأوعَى النّاس بصفاتِ الحضارة الإنسانية الكريمة، التي تُعِزُّ ولا تُذِل، وتعْدِل ولا تظلم، وتُكرم ولا تهينُ، وترفع ولا تخفض، وتُسعد ولا تُشقى، وتغني ولا تُفقِر، وتؤمِّن ولا تخيف، وتوثر ولا تستأثر.
فمن أيْن ورِثوا هذا الذكاء وهذا الوعي؟! وهذا العلم؟! وهذا الفقه؟!…
ورثوا كُل ذلك من العلم القرآني الذي فَتَح أعْيُنَهم على حقائق الحياة والموت، وحقائق الدنيا والآخرة، وحقائق الكون، وحقائق المال، وحقائق الإنسان الإنسان، وحقائق الإنسان الحيوان، وحقائق الإنسان الذي هو دون الحيوان، وحقائق القيم الحضارية الخالدة، وحقائق القيم الحضارية الزائفة.
تعلموا كل ذلك فأصبحت قُلوبُهم غير القُلوب، وأبصارُهم غير الأبصار، وآذانهم غير الآذان، وحياتَهم غير الحياة، وتطلعاتُهم غير التطلعات. انقلبوا بالقرآن رأسا على عقب.
كما ورثوا ذلك من تعليم الرسول لهُم كيف يقْرأون الواقع قراءة إيمانية جديةً كلّ الجدّة عن القراءات المادية للواقع المادي الزائل.
لقد جاء خباب ابن الأرث ] يشتكي لرَسول الله ما يصيبه ويصيبُ المسلمين من الأذى في سبيل هذا الدين الجديد. فأخبرهُ أن ذلك سُنّة من سُنن الله تعالى للتمحيص المُهيِّئ للتمكين، وأن ما تحمّلَه السابقون هو أكْبَرُ بكثير مما يتحمّلُونه هُمْ اليوم، هذا أولا.
أما ثانيا فإن هذا الدِّين الذي يؤدُون ثمنهُ جوعاً وعطشا وضرْباً وحرْقا وقتْلاً وسجناً وإذايةً هو الدِّين الذي سيظهر على جميع ما عند الناس من أديان ومذاهب ولو كره الكافرون، وكره المجرمون، إنّما يتطلّب ذلك شيئا كثيراً من الصّبْر، وشيئًا من التروِّي وعدم الاستعجال، وشيئا عظيماً من الصدق وتفْويض الأمر لصاحب الأمْر.
وهكذا انطلقوا يقرأون الواقع والمستقبل :
> بحساب ما عندهم من الدِّين المناسب للفطرة والعقل والكرامة الإنسانية بجميع أنواعها وما عند غيرهم لا يناسِبُ شيئا من كل ذلك.
> وبحساب ما عندهم من الدين الذي يضمن المصلحة العليا للإنسان حالا ومآلا، وما عند غيرهم مجرَّدُ أوهام لمصالح خاصة تكرس استعْبادَ القوي للضعيف.
> وبحساب أن ما عندهم من مرجعيَّته إلى الحيّ القيوم، وإلى المشرّع الحكيم، وما عند غيرهم مجرّدَ أهواءٍ يُمْليها الكبارُ على الصغار.
> وبحساب قوةِ ربِّ دينهم الذي لا يُعْجِزه شيء في الأرض ولا في المساء، وقُوّة خصمهم المعتمد على لمادّة العمياء فقط، بدون أن يْدُرو أن تلْك المادّة نفْسها هي خاضعةٌ لأمْْر ربِّها.
> وبحساب قوةِ الاستجابة الإنسانيّة للدِّين الذي يوفِّر للإنسانية كُلّ ما تنشده من أمْنٍ وسلام وسعادة وطمانينة دائمة، وثقة مطلقة في ربّ الدين حالاً ومستقبلا، وثقةٍ مطلقة في حِكمة تشريع ربّ الدين العليم الخبير،… ونُفُورها من تشريعات أصحاب الأهواء المؤلِهة لأنفسهم بدون سلطان ولا برهان.
> وبحساب الجُهْد المُبارك الذي يَبْذُله المؤمنون الرّبّانيُون في نشر سِلْعة الله عز وجل التي تمثِّل الحقّ الخالص… والجُهْد المُضَاعف الذي يبْذُلُه خُصوم الدّعوة لدين الله تعالى لإطفاءِ نور الله تعالى، ومع ذلك لا يلاقون إلا الفشل تِلْو الفشل لأنهم يرفعون راية الباطل، والباطِلُ مهْزوم من داخِله، ومِن انطلاقته، ومن أغراضه وأهدافه، قبْلَ أن يتواجَه مع الحق في ميادين الفصل والحسم.
إن المُسلمين الأُوَلَ الذين تشَبَّعُوا بروح القرآن العظيم، وروح توجيهات الرسول الكريم، هاجَرُوا من مكّة ليثْرِب (المدينة) هِجْرةً خالصة لله وللرسول، لا يحْمِلون معهُم أرضاً ولا أحمالاً وأثقالاً من الأموال وإنّما يحْمِلُون >لا إِلَه إلاّ اللّه مُحَمد رسولُ الله< فقط، واثقين تمامَ الثقة من عظَمة ما يحْمِلُون لأنفسهم وللإنسانية من خيْر عميم، وإعادة جوْهريّةٍ لتشكيل سيْر الإنسان على النهج القويم، والصراط المستقيم، برؤوسٍ مرفوعةٍ للسّماء، وأعْيُن مفتوحة على الجِنَان الفيحاء في دار النعيم والخلود والبقاء.
فواجهوا في ظرف قصير كُلّ الخصوم من مشركين، ويهود، ونصارى، ومجوس، ولا دينيين، فهزموهم شر هزيمة منفردين ومجْتمِعِين تحقيقا لوعْد الله عز وجل الذي قال لهم {وكَانَ حقّاً علَيْنَا نصْرُ المُومِنِين}(الروم : 46).
وامْتَنّ الله عز وجل على المهاجرين لله والرسول فقط بقوله {واذْكُرُوا إذ أنْتُم قَلِيلٌ مُسْتضْعفُون في الارْض تخافُون أن يتخَطّفَكُم النّاسُ فآوَاكُم وأيّدَكُم بنَصْرِه ورزَقكُم مِن الطَّيِّباتِ لعلّكُم تشْكُرُون}(الأنفال : 26). تذكيراً لهم بنعم الله عز وجل عليهم، وتنبيهاً للمسلمين في كل وقتٍ وحين أن كُلّ منْ هاجر لله والرسول فقط فهو منصور دائماً، سواءٌ كانت هجرته هجرةً مادية ومعنوية كالهجرة من مكة للمدينة، أو هجرة معنويّة فقط بهَجْر المعاصي، وهَجْر الشّرك بجميع أنواعه، سواء كان شرعا صنميّاً، أو وثنِيّاً، أو شركاً هوائياً، أو شركا سياسياً، أو شركاً عوْلميّاً بما فيه من تحكيم الشرعية الدولية وهجر الشرعية الربانية، فكُل ذلك أثْبَتَتْ الأيام والأحداثُ فشلَهُ فشلا ذريعاً، ولمْ يبْقَ أمامَ الإنسانية المكرمة إلا اللجوءُ للشرعية الربانية لإنقاذِ الحضارة الإنسانية من الانزلاق نحو الهاوية المُهلكة على كُلِّ الأصْعِدَة.
وهذه هي مُهمة الأمّة المُسْلِمة التي يجب عليها وجوبا حتْمِيّاً تجديد الهجرة لله والرسول لتُعْطِي النموذجَ الأمثل، عندما تُبعث من جديد بالعَيْش في الدّنيا للآخرة، وتحْيا من جديد بنور القرآن الذي يُبَصِّر الإنسان بطريق الفوز في الحياة الحقيقية، حياة الخلودِ، وحياة الكرامة في دار العزة والكرامة.
إن الله تعالى سخّرَ لسليمان عليه السلام كلّ شيء وسخّر لهُ الجِنّ ليكونوا في خِدْمة مشاريعه الإصلاحية، ولكن عندما حضر أجلُه مات، وبقي متكئاً على مِنْسَأتِه -عصاه- كأنّه حيٌّ، والجنُّ مستمرون في خدمة مشاريعه وهو ميت، فلم يعْلَمُوا بموته إلا حينما خرّت منسأتُه وهوَتْ {فلَمّا قَضَيْنا علَيْه المَوْتَ ما دَلَّهُم على موْتِه إلاّ دَابَّةُ الارْضِ تَاكُلُ مِنْسَاتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنُّ أنْ لَوْ كَانُوا يعْلَمُون الغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِين}(سبإ : 14).
فهل يُدركُ المسلمون أن مِنْسأة النظام العالميِّ الجديد خرّتْ، وأن زعماءَ هذا النظام الفاشل قد أصبَحُوا يُشَيّعُون بأقْبَح الشتائم كما شُيِّعُ فِرْعَوْن المتألِّه وقومُه المنساقون لألوهيّته المزيّفة بأقْبح اللعنات {كَمْ ترَكُوا من جنّاتٍ وعُيُونٍ وزُرُوعٍ ومَقَامٍ كَرِيم ونَعْمةٍ كانُوا فِيها فَاكِهِين، كَذَلِك وأوْرَثْناهَا قوْماً آخَرِين. فَما بَكَتْ عليْهِم السّماءُ والارْضُ وما كَانُوا مُنْظَرِين}(الدخان : 280).