1) حُسْن ردِّ بني شيبان :
دُفع رسول الله إلى مجلس بني شيبان
قال ابن كثير نقلاً عن أبي نعيم بسنده عن علي أنه قال : >ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلَّم -قال علي- : وكان أبو بكر مقدما في كل خير : فقال لهم أبو بكر : ممن القوم؟ قالوا : من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت إلى رسول الله فقال : بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم، وفي رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غُرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.
وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قَبِيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك.
وكان أقربَ القوم إلى أبي بكر مفروقُ بْنُ عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانًا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر.
فقال له أبو بكر : كيف العدد فيكم؟ فقال له : إنا لنزيد على ألف ولن تُغلب ألف من قلة.
فقال له : فكيف المنعة فيكم؟ فقال : علينا الجهد ولكل قوم حد.
فقال أبو بكر : فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنَّا أشدُّ ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنُؤْْثِرُ الجِيادَ على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصرُ من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا مرة. لعلك أخو قريش؟ -السؤال من مفروق، ومُوَجَّهٌ إ.لى الرسول -.
فقال أبو بكر إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا.
فقال مفروق : قد بلغنا أنه يذكر ذلك.
ثم التفت إلى رسول الله فقال : إلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال : >أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وأن تُؤْوُوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشًا قد تظاهرت على أمر الله، وكذَّبتْ رسوله، واستغنتْ بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد<.
قال له : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟
فتلا رسول الله : {قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا ما اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}(الأنعام : 152- 154).
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله : {إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذّكرون}(النحل : 90).
فقال له مفروق : دعوتَ والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفِكَ قومٌ كذبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحبَّ أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال : وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال له هانئ : قد سمعتُ مقالتك يا أخا قريش، وصدقتُ قولك، وإني أرى أنّ ترْكَنا لديننا واتِّباعَنا إياك على دينك لمَجْلس جلستَه الينا ليس له أول ولا آخر، لم نتفكر في أمرك وننظر في عاقبة ما تدعو إليه، زلَّةٌَ في الرأي، وطَيْشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجعُ ونرجعُ، وتنْظُر وننْظُرْ.
وكأنه أحب أن يَشْرِكه في الكلام المُثَنّى بن حارثة، فقال : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، -بمثابة وزير الدفاع-.
فقال المثنى : قد سمعتُ مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة، وتركُنا ديننا واتباعُنا إياك لمجلس جلستَه إلينا -أي ليس صوابا-، وإنا إنما نزلنا بَبْن صَرَيَيْن أحدهما اليمامة، والآخر السماوة -تثنيه صَرَى وهو كل ماء مجتمع اللسان 192/19-..
فقال له رسول الله : وما هذان الصَّرَيَان؟
فقال له : أما أحدهما فطفوف البَرّ وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نُحْدث حدثا، ولا نؤوي محْدثا. ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذَنْب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذر صاحبه غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعَلْنا.
فقال رسول الله : >ما أسأتم الرّد إذ أفْصَحْتم بالصِّدْق، إنه لايقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه<.
ثم قال رسول الله : >أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويُفْرشكم بناتهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟<.
فقال له النعمان بن بشير : اللهمّ وإن ذلك لك يا أخا قريش!
فتلا رسول الله : {إن أرسلناك شاهدا ومبشراً ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}(الأحزاب : 46).
ثم نهض رسول الله قابضا على يدي أبي بكر.
قال علي : ثم التفت إلينا رسول الله فقال : >يا علي أيَّةُ أخلاق للعرب كانت في الجاهلية، ما أشرفها : بهايتحاجزون في الحياة الدنيا<(1).
2) سويد بن الصامت يلقى رسول الله ويميل للإسلام :
قال ابن إسحاق: قدم سُوَيْد بن صامت أخو بني عَمْرو بن عَوْف مكة حاجّاً أو معتمراً، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل؛ لِجَلَدِهِ وشرفه ونسبه.
فتصدى له رسول الله حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فَلَعَلَّ الذي معك مِثلُ الذي معي، فقال له رسول الله : >ومَا الذي مَعَكَ؟< قال: مَجَلَّة لقمان(2)، يعني حكمة لقمان، فقال له رسول الله : >اعْرِضْهَا عَلَيَّ< فعرضها عليه، فقال له: إن هذا لكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليَّ هو هُدَى ونور، فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعُد منه، وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه، فلم يَلْبَثْ أن قتلته الخَزْرج، فكان رجال من قومه لَيَقُولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل يوم بُعَاث.(3).
3) إسلام إياس بن مُعَاذ وخبر أبي الحيسر :
قال ابن إسحاق : لما قدم أبو الحَيْسَر أنس بن رافع مكة ومعه فِتْيَةٌ من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن مُعَاذ يلتمسون الحِلْفَ من قريش على قومهم من الخَزْرج سمع بهم رسول الله ، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال لهم:
>هل لكم في خير مما جئتم له<، فقالوا له: وما ذاك؟ قال: >أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنْزَلَ عليَّ الكتاب< ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن مُعَاذ -وكان غلاماً حدثاً- : أيْ قَوْمِ، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحَيْسَر أنس بن رافع حَفَنَةً من البَطْحاء فضرب بها وجه إياس بن مُعَاذ، وقال: دَعْنا منك، فَلَعَمْري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة.
وكانت وقعة بُعَاث بين الأوس والخَزْرج، ثم لم يلبث إياس بن مُعَاذ أن هلك، قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يُهَلِّلُ الله تعالى ويُكَبِّره ويُحَمِّدُه ويُسَبِّحُه حتى مات، فما كانوا يشكّون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله ما سمع.
—–
1- انظر تتمته في سيرة ابن كثير 166/2- 169 نقلا عن دلائل النبوة، قال فيه ابن كثير : هذا حديث غريب جدا، كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق، ومكام الشيم، وفصاحة العرب.
2- أي الصحيفة الجليلة للقمان، وهو لقمان الذي ذكره القرآن الكريم وليس لقمان بن عاد الذي ذكر في أمثال العرب.
3- يوم بعاث: معركة كانت بين الأوس والخَزْرج أشعل نارها اليهود ليضعفوا الفريقين.