حِلْفُ الفضول -كما قال السهَىْليُّ- كان أكْرمَ حِلْفٍ سُمِع به وأشْرفَهُ بين العَرب. لأن الذين حضَرُوه تعاقَدُوا وتعَاهَدُوا بالله ليكُونُّنّ يداً واحدةً مع المظْلوم على الظالم، حتّى يُؤدَّى إليه حقُّه بالتّمام والكمال. فلا عَجَبَ أن يُثْنِيَ الرسول عليْه، ويتمنّى -بعد اشْتِدَادِ الأذى على المسلمين- لو دُعِي به لأجاب. روى ابن سعْد عن حُبيْر بن مُطْعم قال : قال رسول الله >ما أُحِبُّ أنّ لِي بحِلْفٍ حَضَرْتُه بدار ابن جُدْعَان حمُر النّعم وأنّى أٌغْدِر به، هاشم، وزُهرة، وتيْم، تحالفُوا أن يكونوا مع المظلُوم ما بلَّ بحْرٌ صُوفَةً، ولوْ دُعِيت به لأجَبْت< لأن الإسلام في جوْهره إقامةُ العَدْل ومحاربةُ الظلم.
ولكن قريْشاً -في غَمْرة مقاومَتِها للدّعوة وحامليها- تناسَتْ هذا الحِلف تماماً، فصبّت جامّ غَضَبها على الرسول والمسلمين ضرباً وتجويعاً وسجناً وتعذيباً وقتْلاً -أحياناً- إلا أنّ أخْبث ما تفَتَّقَتْ عنه عبقريّة الكُفر الحاقد على الإسلام والمسلمين هو ضَرْبُ حِصَار مُحْكم على الرسول والمسلمين والمتعاطفين معهم، حيْثُ ألْجَأُوهم إلى الانْعزال في شِعْب أبي طالب، ثم تواصَوا فيما بينهُم على عزّلهم عزّلاً تامّاً عن كُلِّ وسَائل العَيش المُحافِظَةِ على الحياة، وعن كُلّ وسائل التعامُل مع مختلفِ الناس من خارج قريش، فسَدُّوا عليهم أبواب السّعْي لكسْب الرزق عن طريق التجارة، وأبْواب الاختلاط والتّصَاهُر والاستماع لأفكارهم وشَكاتِهم ودعْوتهم، فكان الحصارُ حصاراً اجتماعياً واقتصاديّاً ونفسيّاً وإعلاميّاً، كلُّ ذلك لتصْفيَتِهِم بدون متابعةٍ أو تحمُّل مسؤولية، أو حمْلِهم على التنازُل عن دينهم ودعوتهم وجعلهم أذلاَّء صاغرين.
واستمرّ هذا الحصار ثلاثَ سنوات كانت كافيةً لإفْنائِهم جوعاً ومرضاً، وكافيةً للرُّضوخ لمطالب الطّغَاةِ المجرمين لوْلا عِنايةُ الله تعالى المُعْجزة والقاهرة لكَيْدهم ومكْرِهم، كما كانت كافية لجعْل ضمائر بعض الأحرار الشرفاء تصْحُو من الغَفْلة والتخدير الإعلامي الظالم والمَسْمُوم الذي يَبُثُّه المُجرمون الماكرون في الأندية والمواسم والأسواق قصْدَ التغطية على جرائمهم وإظْهارهم بمظهَر المُدافع عن قِيم المجتمع التي يجِبُ صوْنُها عن العَبَث بها، أو التَّفْريط فيها، لأنها قِيمٌ مقَدَّسة موروثة عن الآباءِ والأجْداد، ولأنها قِيمٌ تستحِقُّ أن يُزاحَ من طريقها كُلُّ معارضٍ لها أو ساعٍ إلى تغْييرها، حتى يستقر الوضعُ السياسيُّ والاجتماعيُّ والعَقَديّ على ما تعارفَتْ عليه أهْواءُ الحَاكِمين المُسيَّدِين بقُوّتهم المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، لأن قوّتُهم هي الحقّ الذي لا يُنازَع، ولا يُعارض، ولا تُناقشُ شرعيّتُه في نظرهم.
فلقد اتّقدتْ الغَيْرةُ على الكَرامة المهْدُورة في صَدْر هِشام بن عمْر فقادَ حمْلةً ضارية لتحْرير المحاصَرين المظلومين من أسْرِ الجوع والظلم والهوان، كأنَّهُ يُحْيي بذلك رُوح حِلف الفضول الذي دَاسهُ سُفهاء قريش وكُبراؤها بالأقْدام، فمشَى إلى زُهير بن أمية والمُطْعِم بن عدي، والبَخْترى بن هشام، وزمْعة بن الأسود، فحرََّضَهم على القيام ب نقض الصحيفة الظالمة، صحيفة الحصار الغاشِم، صحيفة الخِزْي والعار، فاتّفقوا جميعاً -سِرّاً- على مُواجَهَة أكابر الإجْرام بالحقيقة المُرّة، وهي أن صحيفة المقاطعة والمحاصرة لا تُمَثِّل رَأْي عُقلاء قريش، الذين لا يمكن أن يرْضَوْا أبداً بما كُتِب فيها من إْجرامٍ وإهانةٍ للكرامة الإنسانية في بَلَد الأمْن والأمان، وبَلَد الإعزازِ للإنسان.
فقامُوا ولمْ يٍقْعدوا إلا بعْد أن مزَّقُوا الصحيفة، وفكُّوا الحصار عن المُسْتضْعَفين الصابرين المُحتَسبين لله، وبذلك انتَهَت أُسْطورة الوحشيّة الطاغوتية، وبقيتْ وصْمة عارٍ في جَبِين المتوحشين الملعونين تاريخيّاً بلسان الكون والإنسان.
وجريمة الحصار الطاغوتي على الشرفاء الأحرار ذوي المبادئ السّامية معروفةٌ ومُتوارَثَةٌ تاريخيّاً طاغوتاً عن طاغوت، وظالماً عن ظالم، إلى أواخِر القرن العشرين، قرْن الطّفْرة الحضاريّة ماديّاً، وكان الناس يأْملُون أن يُهِلّ القرنُ الواحِد والعشرون على الإنسان بفُتُوحاتٍ من الحريّة الشاملة، والكرامة السّابغة، والعَدَالة النزيهة، والتعاوُن الإنساني من أجْل بناءِ دُوَل الحقِّ والقانون، وتأسيس عصْر العوْلمَة الإنسانيّة الرائعة، التي تتبرّأ من الأنانيّة والهَيْمنة الفكرية والسياسية والعلمية و العسكرية والثقافية لأجل الوصول إلى تحقيق مجتمَع السلْم العالميّ، والأمْن العالميّ، والتساوي العالمي، والتضامُن العالمي، إلاّ أنّ هذا الحُلْم تَبَخَّر مع بُزُوغ طلْعة القرن الجديد، إذْ لمْ يكَدْ يسْعَدُ الناس بطلْعَتِه حتّى فوجِئُوا بأخْبث أنواع الاستعمار، وأبْشع أنواع الاستبداد، وأخسِّ أنواعِ التعذيب والإذْلال، وأحطِّ أنواع الهيمنة الهمَجِيّة المُتَلَفِّعة بالوقاحَة السافرة، والعُنصرية المَقيتة، والأثَرة البغيضة، والغَطْرسة المتجبِّرة.
واخترعَ الاستعمارُ العالميُّ الجديد -لستْر سُوء نيّته وخُبْث طويّته- بدْعة الإرهاب لتكون تُهمة جاهِزة للإجْهاز على كُلّ مُقَاومة لأطمَاع الاستعمار الجديد، وطُبِّل وزُمِّر -إعلاميّا- لهذه البدعة الجديدة، حتى ترَسَّخَتْ مفاهِيمُها -المُعْوجة- في أذْهانِ وعقول وأفكار عامة الشعوب المُسْتضْعَفَة، فصَارتْ عوْناً للاستعمار، وأزْلام الاستعمار، وعُملاء الاستعمار على قتْلِ ذاتها وكرامتها بِيَدِها ظانّة أنها تُحارِب الإرهاب، مع أنّها لا تدْرِي معْنى الإرْهاب الحقيقيّ، أو تدْري معْناه ولكنها تخافُ مِن بَطْش المُخْرِجِين لبِدْعة الإرهاب، أو تطْمَعُ في نَيْل الحُظوة لدَيْهم ارْتِزاقاً أو إغضاءً عن جرائمِهم واسْتِبْدادِهِم بشعُوبهم.
وكان حصارُ الفلسطينيّىن بغَزّة -بتُهْمة الإرهاب- أقْبَح أنواعِ الظّلْم الإرهابيّ الجديد، في القَرن الجديد، الأمْرُ الذي حرّك بعْض ذَوِي الضّمائِر من مختلف الدّول والجنسيّات للعَمَل على كَسْر هذا الحصار الظالم، كما كسّره ذوُو الضمائر الحيّة من شرفاء قريش قديماً، فهَيَّّأُوا سفينةً أولى مُنْذ ما يقْرُب من شهْرين، ونجَحُوا في الوصول إلى غزة وتقديم ما قدَرُوا عليه من المساعدات الرمزية للمحرومين من العيش الكريم ظلما وعدوانا، ثم هيّأوا سفينة ثانية يوم 2008/10/29 -وجاءوا على متْنِها أيضاً- لاختراق الحصار، وإسماع صوْتهم للعالم المُسْتكين، ونجحوا -أيضا- في تحقيق هذه المُهمّة الإنسانية الكريمة، ثم عادوا وهُم عازمون على تكرار التجربة لعلّ الضمائر تصحو وتسْتَيْقِظ فتمْحُو عن الإنسانية سُبّة الدّهر، وسُبّة القَرْن، وسُبّة الرِّضا بظلم الإنسانية المعذَّبة.
وإذا كان للاستعمار الجديد عُذْره، وللعملاء عُذرُهم فما عُذر الدّول المسلمة وشعوبها؟! ماذا سيقولون لربّهم يوْم يسْألُهم عن تجويع إخونهم في الملة والدين والإنسانية؟!
ألم يقل الله تعالى : {ولقَد كرّمْنا بني آدم وحمَلْنهم في البَرّ والبَحْر ورزَقْناهُم مِن الطّيِّبات وفضّلْناهم على كَثِير ممّن خَلَقْنا تفْضِيلا}(الإسراء : 70) أيُكْرِم الله تعالى مُطْلق الإنسان بضمان الرزق له ويُهينُه الإنسان الظالم بتجويعه وإذلاله؟! أليس هذا تعدّيا على حقوق الله وحقوق الإنسان المطلق؟!
وألم يقل الله تعالى للمسلمين بالأخص : {وتعَاوَنُوا على البِرّ والتّقوَى ولا تعاوَنوا على الإثْم والعُدْوان واتّقوا الله إنّ الله شدِيد العقاب}(المائدة : 3) وألم يقل الله تعالى : {إنّما المومِنُون إخْوة..}(الحجرات : 10) وألم يقل الله تعالى : {يا أيّها الذين آمنوا اذْكُروا نعْمة اللّه عليْكم إذْ كُنْتُم أعْداءً فألَّف بيْن قُلُوبِكم فأصْبَحْتُم بنِعْمَتِهِ إخْواناً..}(آل عمران : 103).
وإذا كان الرسول يقول : >كادَ الفَقْر أن يَكُون كُفْراً< فكيف إذا اجتمع الفقرُ والمرضُ وانعدامُ الكهرباء ومصارِف الماء الصحيّة؟! وانعدامُ الوقود، وتعثُّر التمدُرس؟!
وألم يقل الرسول : >ما مِن امْرِئٍ يَخْذل امْرأً مُسْلماً في موْضِعٍ تُنْتهَكُ فيه حُرْمتُه، وينْتَقَصُ فيه من عِرْضِه إلاّ خذَلَه الله في موْطٍنٍ يُحِبُّ فِيه نُصْرتَه، ومامِن امْرئٍ يَنْصُر مُسْلِماً في موْضعٍ يُنْتَقَصُ فِيه من عرْضِه ويُنْتَهَك فيه من حرْمَته إلاّ نصَرَهُ اللّه في موْطٍن يُحِبُّ نُصْرتَهُ<(رواه أبو داود).
إذا كانتْ الجاهليةُ الأولى قد انْمحَتْ بمََجِيء الإسلام فماذا نُسَمِّي تعْطِيل ا لنصوص القرآنية والحديثيّة، وضرْْب عرْضِ الحائط بالمبادئ الإسلامية الأساسية؟! وخصوصا مبْدأ الولاية لله والرسول والمومنين؟! {إنّما ولِيُّكُم الّه ورسُولُه والذِين آمَنُوا}(المائدة : 57) {والمومِِنُون والمُومِناتُ بعْضُهُم أوْلِيَاءُ بعْضٍِ}(التوبة :72).
وإذا كانت الشرعيةُ الدوليةُ -المُتمسَّح بها- هي نفْسُها في نصوصِها وسياقِ ورُودِها لا تُجِيزُ محاصرة الإنسان وإذلاله وإهانته بدون حق، فلماذا المسلمون دولا وشعوبا يتراخَوْن في تقويم العِوَج الفكري والتفسيري للمواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان؟! مَتى يبدأ المسلمون في الإسْهَامِ الحضاري الحقيقي فيتخَلَّوْن عن التبعية العمياء لمَنْ يدّعي حماية الحقوق الإنسانية وهو أوّلُ خارٍقٍ لها؟!
ورحم الله أوَيْساً القرنيّ الذي أثِر عنه أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه : >اللّهُمّ إنِّي أعْتَذِر ِإلَيْك عنْ كُلّ كَبِدٍ جائعَةٍ، فإنّك تعْلَمُ أنِّي لا أمْلِكُ إلاّ ما في بَطْنِي. اللّهُم إنِّي أعْتَذُرُ إليك عنْ كُلِّ ظهْرٍ عارِيةٍ، فإنّك تعْلمُ أنِّي لا أمْلِكُ إلاّ ما يسْتُرُ عوْرَتِي<.
وصدق الله العظيم إذ يقول : {إنّما ذَلِكُم الشّيْطان يُخَوِّفُ أوْلِياءَهُ فلاَ تَخَافُوهُم وخَافُونِ إنْ كُنْتُم مُومِنين}(آل عمران : 175).