ابتداء التفكير في نقل الدعوة لمكان جديد بعد وفاة خديجة وأبي طالب


6) وفد نصارى الحبشة

قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله  وهو بمكة عشرون رجلاً، أو قريب من ذلك، من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجالٌ من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله  عما أرادوا دعاهم رسول الله  إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضَتْ أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصَفُ لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفرٍ من قريش، فقالوا لهم: خَيَّبَكُم الله من رَكْبٍ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم تَرْتادُونَ لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تَطْمَئِنَّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم، أو كما قالوا لهم، فقالوا لهم: سلامٌ عليكم؛ لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأْلُ أنفسنا خيراً، ويقال: إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان، فيقال والله أعلم: فيهم نزلت هؤلاء الآيات {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ مِن قَبْلِهِ، هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءامَنَّا بِهِ، إنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِك يُوتَوْن أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السّيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمِعُوا اللَّغْـــو أعــــرضُوا عنْهُ وقــــالوا لَنَـا أَعْمَالُنَا وَلَكُـــمْ أعْمَــــالُكُــــمْ سَــلاَمٌّ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 52- 55)(1).

قال ابن إسحاق: وقد سألت ابن شِهاب الزُّهْرِيّ عن هؤلاء الآيات فيمن نزلت، فقال لي: مازلت أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه، والآيات من المائدة قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَاهِدِينَ}(المائدة: 82 – 83).

7) خروج النبي  إلى الطائف وموقف ثقيف

قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله  من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله  إلى الطائف يَلْتَمِسُ النُّصْرَة من ثقيف، والـمَنَعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.

قال ابن إسحاق بسنده: عن محمد بن كَعْب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله  إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عَمْرو، ومَسْعُود بن عَمْرو، وحبيب بن عَمْرو، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جُمَح، فجلس إليهم رسول الله  ، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال له أحدهم: هو يَمْرُطُ(2) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أمَا وَجَد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لئن كُنْتَ رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خَطَراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام رسول الله  من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكر لي >إذْ فَعلتم ما فعلتم فاكتموا عنّي< وكره رسول الله  أن يبلغ قومه عنه فيُذْئِرَهُمْ(3) ذلك عليه.

فلم يفعلوا، وأغْرَوْا به سفهاءهم، وعبيدهم يَسُبُّونه ويَصِيحون به حتى اجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط(4) لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثَقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حَبَلَة من عِنَبٍ(5) فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويَرَيان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فلما اطمأن رسول الله  قال فيما ذكر لي:

>اللَّهُمَّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قوَّتي وَقِلَّةَ حِيلَتي وهَوَانِي عَلَى النَّاس يَاأرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أنْتَ رَبُّ الـمُسْتَضْعَفِينَ وأنْتَ رَبِّي إلَى مَنْ تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يَتَجَهَّمُني(6) أم إلى عَدُوٍّ ملكته أمري؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ علَيَّ غَضَبٌ فَلا أُبالي، ولكن عافِيتُكَ هِيَ أوْسَعُ لي، أعوذ بنُورِ وجهك الذي أشْرَقَتْ له الظلمات وصَلَحَ عليه أمْرُ الدنيا والآخرة من أن تُنْزِلَ بي غَضَبك أو يَحِلَّ علَيَّ سَخَطُكَ، لك العُتْبَى حتى تَرْضَى ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ<.

قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركَتْ له رحمهما(7) فَدَعَوَا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عَدَّاس، فقالا له: خذ قِطْفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله  ، ثم قال له: كُلْ.

8) عرض رسول الله  نفسه على القبائل

قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول الله  مكة وقومُهُ أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به؛ فكان رسول الله  يَعْرض نفسه في المواسم إذا كانت؛ على قبائل العرب: يدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يُصَدِّقوه ويمنعوه، حتى يبيِّن عن الله ما بعثه به.

قال ابن إسحاق بسنده : عن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي ؛ فقال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله   يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: >يابني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تُشْرِكوا به شيئاً، وأن تَخْلَعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنْداد، وأن تؤمنوا بي وتُصَدِّقوا بي، وتمنعوني حتى أبَيِّنَ عن الله ما بَعَثَني به< قال: وخلفه رجل أحْوَل وَضيء له غَدِيرتان(8) عليه حُلَّةٌ عَدَنية، فإذا فرغ رسول الله  من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يابني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللاَّتَ والعُزَّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش(9) إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبي: ياأبت، مَن هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول: قال: هذا عمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب أبو لهب.

قال ابن إسحاق بسنده : أتى رسول الله  كِنْدَةَ في منازلهم فعرض عليهم نفسه، فأبَوْا عليه.

وأتى كَلْباً(10) في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

وأتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقْبَحَ عليه ردّاً منهم.

وأتى بني عامر بن صَعْصَعَة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكَلْتُ به العرب؛ ثم قال له:

أرأيتَ إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: >الأمر إلى الله يَضَعُه حيث يشاء< فقال له: أفَنُهْدِفُ نُحُورَنا للعرب دونك(11) فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟!! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.

فلما صَدَرَ الناسُ رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبيّ يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يابني عامر، هل لها من تَلاَفٍ؟ هل لذُنَاباها من مَطْلَب(12)؟ والذي نفسُ فُلاَنٍ بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيلي(13) قَطّ، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم؟.

فكان رسول الله  على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تَصَدَّى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده.

———–

1- ولعل قدوم وفد الحبشة كان من بركة الهجرة للحبشة، لأن الرسول  عندما أرسل المسلمين للحبشة لم يكن يهدف فقط إلى تأمينهم على دينهم وأنفسهم، ولكن كان نشر الدّعوة على رأس الأولويات لأن الدعوات الصالحة لا يُمكن أن تُحاصَر في مكان أو صندوق أو بيت أو شخص وإنما لها امتداد لا يُحد بزمان أو مكان، وهذا الطاغية أبو جهل يرى ما لا يسره و مع ذلك فهو عاجز محدود القدرة أمام الله.

2- يمرط : ينزعه ويرميه أي يتحمل إثم من مزّق ثياب الكعبة.

3- يذئرهم: يحرضهم ويثيرهم، ويجرّئهم عليه أكثر.

4- الحائط هو البستان وسمي كذلك لإحاطة جداره بأشجار البستان.

5- الحبلة: شجرة العنب.

6- يتجهمني: يعبس في وجهي وينظر نظرات كالحة معادية.

7- أي تحرك إحساسهما بقرابته لهما وقرابتهما له وهما قرشيان، الأول والد هند امرأة أبي سُفْيان والثاني عمها وهما أول من قتل في معركة بدر.

8- غديرتان: ضفيرتان.

9- بن أقيش : إلى هذا الحي من الجن >بني أقيش< تنسب الإبل الأقيشية التي تنفر من كل شيء.

10- أي قبيلة بني كلب.

11- أي أنجعل أعناقنا هدفا لسيوف العرب دفاعا عنك ثم يكون الأمر لغيرنا بعدك.

12- هل لذناباها من مطلب: أي هل يمكن استرجاع ما فات من هذا الأمر، وهو من العبارات التي تضرب مثلا. وأصله من >ذنابي الطائر< إذا أُفلِت من الحُبالة فبقي فيها ريشُه فقط.

13- إسماعيلي: رجل من نسل إسماعيل .

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>