قبر الحيَاة


تنفس الصعداء وهو يغادر مؤسسة القروض بعد أن أمضوهُ على عدة أوراق… أخيرا سيصبح له سكن يأويه هو وأسرته الصغيرة.. بعد خمسة عشر عاما من الوظيفة، جاء اليوم الذي سيتخلص فيه من تلك الوجوه القميئة التي تطرق بابه مطلع كل شهر مطالبة إياه بواجب الكراء… سوف يقرضونه مئتي ألف درهم، وسيتدبر الباقي من أصدقائه ومعارفه… هو يعرف مسبقا أنه سيعيش أياما ضنكة، لأن تسديد القروض سوف يأتي على نصف راتبه، ومع ذلك فهو متفائل إلى حد النشوة..

أليس الضنك خير من البهدلة؟؟… هل ينسى اليوم الذي ألقى به أحدهم هو وأبناءه في الشارع.. (اللهم تْجِي في الجيب ولا تجي فالراس)..

مرت الأيام على رشيد وهو ينتظر انتقاله إلى بيته الجديد -أو قبر الحياة على حد تعبيره- رتيبة وثقيلة.. لم يصدق و هو يتسلم مفاتيح شقته الصغيرة بالطابق الرابع لإحدى الإقامات السكنية التي بدأت تنتشر بضواحي المدينة كالفطر… مضى الشهر والشهران ورشيد مستمتع بسكنه الجديد، لاسيما وأن الاقتطاعات من راتبه لن تبدأ إلا بعد مرور ستة شهور من حصوله على القرض… وجاءت أيام الضنك، واشتد الخناق على رشيد إلى الحد الذي لم يعد قادرا على تسديد فاتورة الماء والكهرباء… لم يبق هناك صديق في الدرب أو في العمل إلا واقترض منه… حتى بقال الحي امتنع عن تزويده بحاجاته الضرورية ما لم يسدد ما بذمته، يأتي هذا و”سعاد” بعد شهر أو أقل ستضع مولودهما الأول… تذكر إمام الجامع وهو يحدث الناس : (..يا ابن آدم إذا ما ضاقت بك السبل، وتخلى عنك الخلق، فباب الخالق مفتوح على الدوام..) قام إلى الحمام، وتوضأ وانطلق مسرع الخطا إلى مسجد الحي… لأول مرة يحس بأن الصلاة لها طعم الحياة… وأن التوجه إلى الله ليس هروبا من الواقع، بل هو تصميم على العودة إلى الواقع بسلاح الإيمان والتوكل…  عاد رشيد إلى شقته الصغيرة وهو يردد (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل.. وأعوذ بك من الجبن والبخل… وأعــوذ بك من غلبة الدّيْن وقهر الرجال..) آمين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>