إن الوقت الأول للموعظة هو زمن الانتباه الواعي عند الناس، ويبدأ يتقلص ويتناقص شيئا فشيئا كلما طال الكلام، فإذا أطال الواعظ إطالة مملة أصيب الناس بالعياء الذِّهني، وتوقفوا عن المتابعة المنتبهة، قال أبو خلدة : سمعت أبا العالية يقول : حدث القوم ما حملوا، قلت : ما >ما حملوا<؟ قال : >ما نشطوا<(1)، وقال الحسن : حدثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوههم فإذا التفتوا فاعلموا أن لهم حاجات(2).
فعلى الواعظ أن يحسب لانتباه الناس حسابه وإلا وجد نفسه يغرد خارج السرب، وحينئذ لا يسمع إلا نفسه فحسب.
يقول السادة العلماء : من أطال الحديث وأكثر القول فقد عرض أصحابه لسوء الاستماع، ولأن يدع من حديثه فضلة يعاد إليها أصلح من أن يفضل عنه ما يلزم الطالب استماعه من غير رغبة فيه ولا نشاط(3).
فالسلامة والنجاة في التأسي برسول الله ، عن جابر بن سمرة ] قال : >كنت أصلي مع النبي فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً<(رواه مسلم) -قصداً أي وسط بين القصر والطول- نعم كانت خطبته قليلة في الزمن والوقت لكنها كثيرة في المعاني والمرامي، لأنه أوتي جوامع الكلم، فكيف نصنع نحن؟ أقول : إن الرسول دعا إلى التخفيف واعتبره فقها ونباهة عند الخطباء والوعاظ، وتقرر في سنته أن الواعظ الفقيه هو الذي يعالج القضايا الكبيرة الأساسية عند وعظه بتركيز وإيجاز، دون تطويل وإطناب، قال في الحديث المقطوع بصحته : >إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه<(رواه مسلم) أي علامة دالة على فقهه.
ويدخل في معنى الفقه هنا فقه الدعوة الذي يقتضي من الواعظ أن يحسن الانتباه لأحوال جلسائه.
——–
1- الجامع لأخلاق الراوي : 206/1.
2- رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
3- الجامع لأخلاق الراوي : 206/1.