4) المفاوضة المبطنة بالتهديد والسخرية والاستهزاء والإغراء : فرديّاً، أرسلوا له عتبة ابن ربيعة وجماعيّاً، اجتمع أشراف كل قبيلة وأرسلوا للرسول ، وبعدما بيّنُوا له ما أحدثه في صَفِّ قريش من الفرقة والشقاق بسبب شتم الآباء، وعيْب الدين، وشتم الآلهة، وتسفيه الأحلام، سألوه : ماذا تريد بهذه الدعوة؟! المال؟! الملك؟! الشرف؟! أوهُوَ مرض أصابك، فهم يلبّون كل الرغبات، ومستعدون لعلاجه من المرض الذي أصابه إذا كان سبب هذه الدّعوة مرضا؟!
فكان جواب الرسول : >مابي ما تقولون، وما أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا فإن تقبلوا فذلك حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم<.
5) الأسئلة التعجيزيّة : قصد الإفحام والتعجيز، فقد سألوه تسيير الجبال عنهم، وتفجير الينابيع في أرضهم، وجعل الصفا والمروة ذهبا، إلى غير ذلك من الأسئلة الدّالة على سفاهة العقول، وسفاهة المقاصد.
6) التحدي لله تعالى : حيث قالوا له في جراءة معتادة في الكفار قديماً وحديثا : >أسْقِط علينا كِسْفاً من السّماء أو حجارةً كما تزْعُم أن ربك قادرٌ على فِعْل ذلك< فقال رسول الله : >ذَلِك إلى اللّه إنْ شَاءَ أنْ يفعَلَه بكُمْ فعَلَ<.
7) الانقضاض على الرسول بالإذاية، ومحاولة قتله واغتياله : فقد حاول أبو جهل رضْح رأسه بالحجارة لقتله مراراً وتكراراً، كما حاولت جماعة من السفهاء قتله، حيث وثبوا عليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يحاولون الفتْك به، ولكن أبا بكر ] قام دونه ومنعه منهم.
8) الانقضاض على المستضعفين بالأذى : حيث تواصوا بينهم أن يتولّى كُلّ واحد منهم تعذيب من أسلم من أقربائه ومواليه وجيرانه، فكان في ذلك بلاء عظيم، وفتنة عظيمة دعا الرسول إلى تهجير المستضعفين للحبشة تخلصا ووقاية واحتياطا وحرصاً على سلامة الصف.
9) الحصار الخبيث الفظيع للتصفية الجماعية للرسول وأتباعه : فبعد ما أعيتْ قريشاً الحيَل، ورأوا المستضعفين أصبحوا آمنين في الحبشة فكّروا في الضربة القاضية الكفيلة بالفراغ التام من الدّعوة ورئيسها وأتباعها بصفة نهائية.
الــفــوائــد
1) ا لاستفادة من الأعراف والأوضاع الاجتماعية السائدة : لقد كان العُرف السائد بين القبائل والعشائر الجاهلية أنهم لا يسمحُون بأن يُمَس أيُّ فردٍ من أفراد العشيرة بالأذى من عشيرة أخرى، وإلا جُردَت السيوف والحملات، وقد استفاد الرسول من هذا العُرف حيث انتصَب أبو طالب ومن معه لحماية محمد وإن خالفوه فيما يدعو إليه، والدّعوةُ الإسلامية في كل وقت وحين لا تعْدم من يُدافع عن أفرادها وأحزابها وجمعياتها لا مناصرة لما تدعو إليه، ولكن تحميها تحت مسمّياتٍ عديدة كحقِّ حُرِّية التعبير، وحق الإنسان في اختيار أي معتقَدٍ، وحق الإنسان في التجمُّع والتجميع، والتنظُّم والتنظيم وتأسيس المنظمات والجمعيات في إطار الحريّة المسموح بها للجميع ولو كانت مخالفة لما توارتثْه المجتمعات من تقاليدَ وأوضاعٍ لا سنَدَ لها من عَقْلٍ أو دليل، فعلى الدُّعاة الاستفادةُ من القوانين والأوضاع الإنسانية التي تساعد على حريّة الدعوة لضمان حريّة التحرك في سبيل خدمة دين الله تعالى بالأسلوب الحكيم المناسب.
2) تشويه الدّعوة والدّعاة يأتي بعكس ما ينشده أعداء الملة : لقد كانت الدعوةُ المسمومة ضد القرآن والرسول والمسلمين سببا في إسلام الكثير من العقلاء الرشداء أمثال ضماد، وأبي ذر والطفيل وغيرهم، كما كانت الصُّور المستهزئة بالرسول في عصرنا سبباً في إسلام الكثير من عقلاء المفكرين في الدنمارك والنرويج والولايات المتحدة، فلا ينبغي للدعاة التأثر بالدّعاية الحمقاء، ولكن عليهم أن يثبتوا ويصبروا، فالله عز وجل كفيل بردِّ كيد الأعداء في نحورهم.
3) الفطرة السليمة أكْبَرُ عَوْن لفِقْه الدّعوة : سرعةُ إسلام الطفيل وضماد وأبي ذر والحصين دليلٌ على أن الفطرةَ السليمةَ سُرْعان ما تستجيبُ لأصْل خِلْقتها وفطرتها التي فطَرها الله عليها من الإيمان بالله تعالى وعبادَتِه، وهذا يدُل على أن الإسلامَ هو الأصْلُ أمّا الكفرُ والنفاق والعصيان والفسوق فطوارئ بسبب البيئة الفاسدة، والتربية الفاسدة. وما اختار الله العربَ على غيرهم ليكونوا أوَّل حَمَلة رسالته إلا لعدّة مـزايا، من أهمِّها :
سلامةُ فِطرِهم وعدمُ تلوُّثهم بتعقيدات الفكر الفلسفي، أو الفكر الدينيّ المنحرف، على غرار اليونان أو اليهود والنصارى.
ولذلك أثمرتِ الدّعوة في البيئة العربية سريعاً، وعلى هذا الطراز نجد أن الأفراد والهيآت والشعوبَ غيْر المَبْنيّة بناءً عقديّاً فاسداً هي أسْرع استجابةً من غيرها لدعوة الإسلام الصافي.
4) خوْفُ الكِبار على مصالحهم هو الذي يدْفعُهم إلى وضْع الحواجز أمامَ الشعوب المستضعفة : كان موسم اجتماع العرب بمكة للحج والتجارة هو الفرصة الكبيرة لعَرض الدّعوة على القبائل الوافدة إليه من مختلف الجهات، ولخوف عُتاة قريش من التقاء القبائل بالرسول وسماع دعوته تفَتَّقَتْ عبقريتُهُم بعد مشاورات وتدبيرات عديدة عن اتّفاقِهم على لقاء القبائل بقولٍ واحد في محمد هُو أنه ساحِرٌ يسحَرُ الناس بكلامه، حتى يتفادَوْا الاجتماعَ به والاستماع إليه.
ووضْعُ الخطباءِ والعلماءِ والوعاظ والمرشدين والدّعاة اليوم تحت المراقبة والتوجيه الخاص هو داخل في إطار التحكُّم في دين الله تعالى، حتى لا يظهر منه للناس إلا ما يوافق سياسة الكبار الحريصين على مصالحهم.
وما يُعقد من ندوات ولقاءات ومحاورات في مواضيع فكرية واجتماعية وحقوقية وتكوينية.. هو داخل في هذا الإطار للتعمية والتلهية والإضلال عن المقاصد الكبرى للدين الذي نزل للعمل به، وليس للتهريج والاستهزاء.
لقد سبقت قريش المتآمرة إلى هذا الأسلوب، ولكن الله عز وجل سفَّه مكرَهم فآمن في الموسم ستة شباب من يثرب كانوا هم الشعلة الإيمانية التي نشرت النور في المدينة المنورة.
5) الاستعانة باليهود دليلٌ على أن الكفر ملةٌ واحدة : فلو كان اليهودُ يهوداً حقا لنصحوهم باتباعه، لأنهم يعرفون من علمهم وكتبهم أن النبيّ الخاتمَ هو نبي مبعوث من العرب وبمكة وبأوصاف محفوظة لديهم، ولكنهم تنكروا لكل ذلك، وابتدَعُوا لهم ما يهْوَون من التعجيز والإفحام والإعنات.
6) لا أمَـــلَ في المطْمُوس على بصـــائِرِهم : إن أبا جهل وأبا لهب والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم كانوا من أعرف الناس بصدق محمد ، وصدق دعوته، وصِدْق الوحي النازل عليه، ولكن الأهواء كانت تحول بينهم وبين الإقرار بالحق والإيمان به.
وفي عصرنا أئِمةٌ في الكفر والزندقة والالحاد والإفساد أُشْرِبوا كُرْه الإسلام من دهاقنة الاستعمار وعملاء الشيطان حتى لم يَبْق في قلوبهم منفَذٌ لشعاع نور الإسلام.
فهؤلاء جعلَهم الله تعالى في طريق الدّعوة للابتلاء والتمحيص، وتهيئة المومنين للفوز والاستخلاف الحق {وكَــذَلِك جَعَلْنا فِــي كُلِّ قرْيَة أكَابِرَ مُجْـــرِميها ليَمْكُـرُوا فِيها وما يمْكُرُون إلاَّ بأنْفُسِهِم وما يشْعُرُون}(الأنعام : 124).
7) الإغراء أشد فتكاً بالدّعاة من السياط والسجون : فكم من دعاة تألَّقُوا فأخْمَدَ نُورَهم المنصِبُ والمال، وكم من جماعات اكتسحَتْ دعوتُها الشعوبَ فأخْمدَها التناحُر على الزعامات والألقاب والكراسي.
أما رسول الله فكان واضحاً تمام الوضوع أمام كل الإغراءات، فهو لا يريد شرفا، ولا مُلكا، ولا مالا، ولا سيادة، ولكنه مبلغٌ لرسالة ربه وكفى، أما الأجر فمن عند الله تعالى.
8) كان حصار الشِّعْب خِزْياً وعاراً وإسقاطاً لسُمعة قريش : فقد اشتهرتْ بين العَرب بعدة مزايا وفضائل، على رأْسها نُصرة المظلوم، ومواساة المحروم، وإكرامُ ذوي الفضل، ولكنها عندما حاصرت المسلمين بالشعب بدون ذنب مقترف أو جريمة مرتكبة هبطت سُمعة قريش بين القبائل، فكان من نتيجة ذلك :
أ- تأثر الكثير من الناس على مختلف طبقاتهم بعظمة الرسول ، وعظمة أتباعه الجائعين الصابرين، فكان ثبات الرسول وأتباعه أكبر دعاية للدين الجديد.
ب- اشتهار دعوة محمد بين مختلف القبائل التي كانت تأتي للموسم فتحمل خبر الحصار، مع خبر ظُلم قريش وخبر مبادئ الدين، حيث طار صَدَاها في القبائل.
جـ-وقيام خمسة من شرفاء قريش وأحرارها لنقض الصحيفة الظالمة بالقوة تعبير واضح عن السخط المتراكم على مدى سنوات الحصار، فنقض الصحيفة بيد الأحرار من غير المسلمين أكبر انتصار للدعوة الإسلامية، وأكبر خزي للظلمة المجرمين.
وإذا كان الكفر اليوم لا يأُْلُو جهداً في حصار المسلمين بالصومال وفلسطين وأفغانستان والعراق وغير ذلك… فإن ذلك ليس جديداً، ولكنه سُنَّة كفريةٌ موروثة، وليس لها من علاج إلا الصبر والثبات.