بعضُ الناس الجاهلين -إن لم نقل أكثرهم- يغترُّ بعَقْله فيظُنُّ أنَّهُ بعقله قادِرٌ على أن يسْتَغٌني به عن الله عز وجل وتوجيهاته وتشريعاته، ويسْتغنيَ عن دين الله تعالى وهُدَاه وعوْنِه ولُطفه ورحمته وتوفيقِه وتسديد خطاه، وذلك هو الاسْتِغْنَاءُ الجاهِلُ الذي توطَّن في نفوس الماديِّين من الدنيويّىن والعلمانيِّين والحداثيِّين سواءٌ كانوا في الشرق أو الغرب، وسواء كانوا في الشمال أم في الجنوب، وهذا الصِّنْف من الناس هو الذي قال فيه تعالى {إنَّ الإنْسان لَيَطْغَى أن رآهُ اسْتغْنَى}(العلق : 7) أي أصْبح يرى نفسَه أنّه ليْس في حاجةٍ لله تعالى، وهذه هي عُقْدة المستكبرين عن عبادة الله تعالى قديماً وحديثاً، إلا أنها تجسَّمَتْ بوضوحٍ في المذاهب المادِّيّة التي يَدِينُ بها الاستعمار القديم والحديثُ، وأقبحُ خصْلةٍ صدّرها المستعمِر لعُملائه وأحِبّائه ووُرّاثِه هي خصلة >الاستغناء عن الله تعالى<، فهُم من هذه الخصلة ينطلقون في كتاباتهم و تحليلاتهم وتنظيراتهم وتقْعِيداتهم ظانين أنهم بذلك قد بلَغُوا الثُّرَيّا وناطَحُوا السماءَ واقْتعَدُوا الجوْزَاءً، وملَكُوا نواصِيَ العِلْم وجواهِر العقل، مع أنهم بانْغِماسِهِم في أعْماق وحَل الثّرى لا يدْرُون أنهم عن الحقيقة محْجُوبُون، وعن إدْراك حِكْمتها قاصرون، فهم واقِفُون وراء أسْوار الحياة الدّنيا بشهواتها وأهوائها وزخارفها فكيف يستطيعُون النفاذَ إلى هُدى الله عز وجل ونوره؟!
ولبُعْدِ هذا النوع عن التّواضُع لله تعالى وتقَبُّلِ الخضوعِ له وطاعِتِه، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولنا : {أما من استغْنى فأنْتَ لهُ تصَّدَّى وما عَلَيْكَ ألا يزَّكَّى وأمّا من جاءَك يسْعَى وهوَ يَخْشَى فأنْتَ عنْهُ تلَهّى كَلاَّ إنّها تذْكِرة}(عبس : 5- 11).
فالآية توجِّه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى الاشْتِغال بالصنف المتواضع، أما من استغْنَى عن الله عز وجل فالله تعالى في غنى عنْهُ، وسيعْلَمُ عاقبة غُروره وتكبُّره يوم تشخَصُ الأبصار، وتهْرَمُ الأحلامُ والأوهام.
بل الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم ولنا في أمْرٍ جازِمٍ بعَدَم تضْييع الوقتِ مع هذا الصّنف المريض بمرض الا غترار بالعقل والمنطق والتفتُّح والتنوير والتحديث {فَأعْرِضْ عن مَّن تَولّى عن ذِكْرنا ولمْ يُرِد إلاّ الحَيَاةَ الدُّنْىا ذَلِك مبْلَغُهُم من العِلْم إنّ ربَّك هو أعْلمُ بِمَن ضلّ عن سَبِيله وهو أعْلم بمَن اهْتَدَى}(النجم : 30) لأنهم مُكَبّلُون بجهلهم الفاضح، وعمَاهم عن ادراك حقيقة الحياة التي يدبِّرُها الخالق الحيُّ القيوم، وحقيقة أداء الحساب عن كل لحظة من لحظات الحياة يوم يُوقَف صاحبُها للسؤال معزولا عن كل جُنْدٍ وأيْدٍ.
وإذا كانت الحياةُ كلُّها، والكونُ كله قائما على الثُّنائيات المتقابلة : ليلٌ ونهار، بياضٌ وسواد، أرضٌ وسماء، ذكرٌ وأُنْثَى، نورٌ وظلمة، نومٌ ويقظةٌ موْتٌ وحياةٌ، فرحٌ وحُزن، ظُلمٌ وعدْلٌ… وهكذا
وإذا كان لا يمكن لعاقل رشيد أن يُسوِّيَ الليلَ بالنهار، أو العدْل بالظلم، أو الرجُل بالمرأة، فالرجُل مُسْتوْدع الحيوانِ المنويِّ في الصُّلب، والمرأة مستقرُّه في الرّحم، والليل لباسٌ والنهارُ مَعاش، وهكذا لِكُلِّ جُزْئيّةٍ من الثنائيات المتعدِّدة صفاتٌ ووظائفُ وخصائصُ.
فمن هذا القَبِيل ثنائيةُ الكفرِ والإيمان، أو الكفر والإسلام.
> فالإسلامُ روح وحياة ونور والكفرُ ممات وظلمة {أوَمَنْ كانَ ميِّتاً فأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِه في النّاسِ كمَنْ مَثَلُه في الظُّلُماتِ لَيْس بخارٍجٍ منْها كذَلِك زُيِّن للْكافِرِين ما كاَنُوا يعْمَلُون}(الأنعام : 123).
> والإسلامُ هُدًى ورحمة أنزلهما الله تعالى لتَرْشِيد سيْر الإنسان على وجه الأرض حتى لا يزيغ فيَهلك ويُهلِك، ويَضِلَّ فيُضل {فإمّا يَاتِيَنَّكُم مِنّى هُدًى فمَن اتّبَعَ هُدَايَ فلاَ يَضِلُّ ولا يشْقَى ومن أعْرَضَ عنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ معِيشَةً ضَنْكاً ونحْشُرُه يوم القِيامة أعْمَى}(طه : 122) أما الكفر فضَلالٌ وأهواءٌ ما أنزل الله بها من سلطان.
> والإسلامُ دين ارتضاه الله تعالى للبشرية إكراماً لها في الدنيا والأخرى {ورَضِيتُ لكُم الإسلام ديناً}(المائدة : 4). أمّا الكفر فتمرُّدٌ على الخالِق وإجرامٌ في حقِّ االنفس والإنسانية والمحيط {أَفنَجْعَلُ المُسْلِمِين كالمُجْرِمِين مالكُم كَيْف تحْكُمون}(القلم : 37).
> والإسلام عِزة وسُمُوٌّ وتزكية وارتقاءٌ في سُلّم العدْل والفضائل وكُلّ القيم الحضاريّة الرفيعة، أما الكفر فذِلةٌ وخسةٌ ونذَالَةٌ وسفاهةٌ {إنّ الذِين يُحادُّون الله ورسُوله أُولئِك في الأذَلِّين}(المجادلة : 20).
> والإسلام دعوةٌ مفروضةٌ لإسْعادِ المستجيب وإقامة الحجة على المعاند المكابر، أمّا الكُفْر فلا نبيَّ له ولا رسُولَ ولا شرْعية لوجوده إلا خُلُوُّ المكان والزمان من الدّعوة والدُّعاة، فهو كالظلام يزْحَفُ عند ما ينطفئ النور، ورحِم الله مُومن آل فرعون ورضي عنه عندما قال : {وياقوْم مالي أدعوكُم إلى النجاة وتدعونني إلى النّار تدْعُونني لأكْفُر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنَا أدْعُوكم إلى العزِيز الغَفّار لا جرَم أنّما تدعونني إليه ليْس له دعْوة في الدّنيا ولا في الآ خرة وأن مردّنا إلى الله}(غافر : 43).
العُمْيُ والعَورُ والحَولُ من الحداثيّىن الذين ارتضعوا من الاستعمار إلى درجة التشيُّع بسُمُوم أفْكارهم قد قَضَوْا أعْمارَهُم في نزْعِ القداسةِ عن الإسلام ورُمُوزه بمحاولة جَعْلِ الكُفْر على قَدَم المساواة مع الإسلام، ولهذا لا معنى لتمْييز المسلم عن الكافر، ولا معنى لتمييز الأمة الإسلامية عن الملة الكفرية، ولا معنى لتمييز كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن كلام أساطين الكفر والزندقة والإلحاد.
وللوصول إلى تحقيق التكافؤ بين الكفر والإسلام كان :
< طعْنُهم في المرجعية الإسلامية : القرآن والسنة، فلكي يتفاهَم المسلمون مع الحداثيين على المسلمين أن يُطلّقوا الاستنادَ إلى النصوص القرآنية والنبوية، بدعوى أنها نصوص عتيقة يجب أن يُشطَّبَ عليها وتُزاحَ من الطريق، فهم -لعماهم وعبقرىّة جهلهم- لا يسْألُون أنفسهم كيْف يتأتّى للمسلمين التبرُّؤ من كتابٍ موَثّق السّند العالي إلى الله تعالى لهوى بشريٍّ لا دليل له، ولا مرجعيّة، ولا سند، ولا هدف إلا إخضاعُ الإنسان للإنسان؟!
< وكان طعْنُهم في المنزلة الرفيعة التي وضع الله تعالى فيها المسلمين بوصفهم خيْر من يمشي على الأرض {أولئِك همْ خيْرُ البَرِيئة}(البينة : 7) بينما وضَع الله تعالى الكُفْر في أحطّّ دركات الوضَاعة والسفالة {أولَئِك هُم شَرُّ البرِيئة}(البينة : 6).
ومن هذا القبيل قول الله تعالى في الأمة الإسلامية {كُنْتُم خَيْر أمّةٍ أخْرِجَتْ للنّاسِ}(آل عمران : 110) أما الكفار فيقول الله تعالى فيهم {والذِينَ كَفَرُوا يتَمَتَّعُون ويَاكُلُون كَما تَاكُلُ الأنعَامُ والنّارُ مَثْوًى لهُم}(محمد : 13) فهذا التمييزٌ والتميُّزٌ -في نظر عباقرة الجهل- إستعْلاءٌ ونرْجسيّةٌ كأنّ المسلمين هُم الذين وضعُوا دينَهم لأنفسهم، كما وضعَتْ الحداثةُ دينِها وهواها ومرجعيتها لنفسها.
فالحداثيُّون أيضا -لغباوتهم أو عبقريتهم- لا يسألون أنفسهم كيف يتأتّى للمسلمين الانسلاخُ عن منزلة وضعهم الله تعالى أمّةً وأفراداً إلى منزلة ترابىّةٍ سرابيّةٍ لا مستقبل لها لا في الحياة ولا بعد المماتِ.
إن الإسلام دينٌ له إلهٌ معْبُودٌ، وكِتابٌ موثق موجود، ورسُولٌ متبوعُ، ومنهجٌ شامل وهُدًى كاملٌ، فمن إلَهُ الحداثة؟! ومن نبيَُّها؟ وما كتابُها؟! وما منهجُها وهُداها؟!
إنه من الحُمْْق البيّن أن تطْلب من إنسان خَلْعَ لباسِه لتتركَهُ في العراء بدون أن تقدِّم له لباساً يساوي لباسَه -على الأقل- أو أحْسَن من لباسه.
الحداثيُّون يريدون من الأمة خَلْعَ لباسها لتبقى في العراء متعرّضة للصقيع والزمهرير، ألا ساء ما يأْفِكُون ويُبْرمون!
فهم لا يعتبرون الدين صِبْغةً ربّانيّة بها يحْيَى الإنسان، وعلَيْها يموتُ، وبها يُبْعَث ويُخلّد في الجنان والرضوان، ولكنهم يعتبرون الدينَ لباسا عاديّاً يُمْكن أن يُلْبَسَ في رمضان، والأعياد، والجمعات، والمواسم، ويُخْلع في المقاهي والمحاكم والوزارات والانتخابات والأسواق والمتاجر.
وعلى هذا الأساس يعْتبرون الخروج من الإسلام كالدُّخول فيه، كما دخَل حُرّاً مُخْتاراً، يجب أن تُوفَّر له الأجْواء والظروف أيضا ليخرج منه مختاراً.
وهذا هو مكْمنُ مزلقِهِم حيْث يُسوّون بين الكفر والإيمان، مع أن الإسلام شرفٌ ورحمةٌ ونجاةٌ من النار في حين أن الكفر بوارٌ وهلاكٌ وخِزيٌ في الحياة وبعد الممات، فمن حلاَوة الإيمان كُرْهُ الارتداد عن الإسلام كَما يكْرَه الإنسانُ أن يُقذف في النار.
فكما كانت الدّعوة للإسلام واجبة كانتْ حمايةُ المسلمين من أجْواء الكُفر والارتداد والإلحاد واجبةَ على الأسْرة والمجتمع والدّولة والأمة، صَوْناً من العَبَث بالصّبغة الربّانيّة، والعبث بمصالح الأفراد والجماعات، والاستهتار بمصيرهم.
أما تشريعُ الإسلام لقَتْل المرْتَدِّ الذي تُوفَّر له جميع فُرص التوبة ومع ذلك يُصِرُّ على خلع لباس الإسلام فذلك رحْمةٌ لهُ، وصَوْنٌ لكيان المجتمع من التأثر بالتيار الذي أورده المهالك.
لأن المرتد :
> يُعتبر ميّتاً موتا معنويّاً وإن كان يأكل ويشرب، فالكفر موْتٌ ولو كان يتحَرّك، ويحارُب ويُعَذِّب المومنين.
> والميت معنويا وسط المجتمع المسلم يعيش معزولا ومنبوذاً من الأقارب والأباعِد، فقتله بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة عليه لإراحته مما هو فيه.
> أما بالنسبة للأمّة فهو يُعتبَر طابوراً خامساً يدُلُّ الأعْداء على عورات المسلمين ومكامن ضعفهم ليهيئ لهم فرص الانقضاض عليهم، وجميع التشاريع الحديثة تُبيح قتْل الجواسيس وأفاعي الشر وعقارب الفساد والإفساد أفُيلاَم الإسلامُ وحْدَه على تَنْظِيفِ بيْته ومجتمعه من رؤوس الشر ووقود الفِتْنة والخراب؟! {ومَنْ يرْتدِدْ مِنْكُم عن دِينِه فيَمُُتْ وهُوَ كافِرٌ فأُولئِك حبِطَتْ أعْمالُهُم في الدّنْيا والآخِرة وأُولئِك أصْحاب النّارِ هُم فِيها خالِدُون}(البقرة : 215).