التربية على النجومية الحقيقية 1


د. مصطفى الهاشمي
تكتسي الكلمة والمصطلح أهمية كبرى في بلورة الفكر وتطويره وفي تشكيل الوعي والثقافة لدى الشعوب والأمم ؛ فإذا كانت الكلمة نابعة من عمق ثقافة الأمة ومستوحاة من تراثها وأصالتها أومن كتابها المقدس واستعملت في المعنى الأصلي الذي وضعت له ، كانت بمثابة الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، وإذا خبثت الكلمة أو أريد بالمصطلح غير المعنى الذي وضع له في الأصل كان أشبه ما يكون بالشجرة الخبيثة المنخورة الجذع المجتثة الجذور.

وأحسب أن مصطلح “النجومية” من بين المصطلحات الأكثر تداولا من قبل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في السنوات الأخيرة ، ونظرا  لاستعماله استعمالا خاطئا ، فقد أدى ذلك إلى الاعتقاد الخاطئ لدى كثير من شباب الأمة وشيبها في أن “النجومية” تنحصر في المعنى الضيق الذي صنعه الإعلام المذكور، الذي يرسخ في الأذهان أن  “النجومية ” تتمثل في إحراز المرء الشهرة في الرقص أو الغناء أو التمثيل أوعرض الأزياء وما شابه ذلك من المجالات التي لا يمت كثير منها للمفهوم الحقيقي للنجومية بأية صلة، ولعل من أهم أسباب انتشار الاستعمال الفاسد لهذا المصطلح ظهور موجة من القنوات الفضائية والبرامج التي تروج للنجومية بمعناها المزيف.

ومما يزيد الطين بلة ، إنسياق كثير من الناس بمختلف فئاتهم العمرية بما فيها فئات عريضة من الشباب ذكورا وإناثا وراء هذه القنوات المضللة التي لا هم لها سوى الغناء الفاحش والرقص وعقد اللقاءات المطولة مع ” النجوم” الزائفة ، وإقامة الحفلات التكريمية بين فترة وأخرى لأنماط من الناس {ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}(الكهف : 104) ، ذلك بأنهم يعتبرونهم “نجوما” ويوهمونهم بذلك فيحسبون أنهم كذلك حقيقة، وقد تجد أحدهم غارقا في توافه وترهات من أعمال واهتمامات لا تقيم دينا ولا تعمر دنيا.

ومما يدل بوضوح على هذا الانسياق الأعمى وراء بعض المضللين من أصحاب بعض القنوات الفضائية الفاسدة التي تشجع النجومية الزائفة ويحقق أصحابها أرباحا تفوق التصور من خلال الاتصالات الهاتفية لأجل التصويت على ما يسمى ب “النجوم” المفضلة لدى المشاهدين.

فقد بلغ عدد المتصلين ببرنامج ستار أكاديمي للتصويت على ما يمكن تسميتهم بالنجوم الزائفة أكثر من سبعين مليون اتصال ، بينما كان عدد المصوتين من جميع البلدان العربية في مجلس الأمن والأمم المتحدة على وثيقة الاعتراض على الحرب على أفغانستان المسلمة آنذاك وصل إلى ثلاثة ملايين صوت فحسب!

لقد أضحت نجومية الجهد والإنتاج والقدوة الصالحة والعلم والإبداع المفيد للأمة لا اعتبار لها في دنيا الناس إلا من رحم الله، ولم يعد كثير من الناس يعرفون من هم النجوم الحقيقيون على وجه الحقيقة … النجوم الذين أقاموا الدين وحفظوه وبلغوه، والنجوم الذين عمروا الدنيا بالعلوم والاكتشافات والاختراعات التي يسرت سبل العيش وطورت أساليب الحياة على الناس.

من هذا المنطلق يلوح في الذهن تعريف بين وواضح لكل من النجم الحقيقي والمزيف وكذا النجومية الحقيقية والمزيفة؛

فالنجم الحقيقي ” شخص مشهور بأمر يحفظ الدين أو يعمر الدنيا ، يكون محل اقتداء واهتداء ، ويتعدى نفعه إلى الغير”

أما النجم الزائف فهو ” شخص منشغل بما لا يحفظ دينا ولا يعمر دنيا ، أشهرته بعض وسائل الإعلام، لتحقيق الربح المادي على حساب الفضيلة والعفة “.

والنجومية الحقيقية هي” الاشتهار بتحقيق إنجاز عظيم مشروع ، أو بجلب مصلحة للبشرية أو درء مفسدة عنها في معاشها أو معادها”

والنجومية الزائفة تأخذ معناها مما تقدم ذكره في النجم المزيف ، وقد تكون مرادفة للاشتهار بأمر ينافي مكارم الأخلاق.

وظائف النجوم

إن مما تعارف عليه الناس في تعابير اللغة عند تشبيه شيئ بشيء أن المشبه تتوافر فيه صفات المشبه به أو بعضها، فعندما نقول فلان كالأسد فلابد أن يتصف بمثل ما يتصف به الأسد كالشجاعة والقوة والإقدام ، وكذلك حين نقول فلان نجم فإننا نشبهه بنجم من نجوم السماء ونضفي عليه كلا أو بعضا من صفاتها وخصائصها ووظائفها ، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو إلى أي حد تتشابه “نجوم” الأرض مع نجوم السماء؟ وللقارئ أن يستنتج الجواب من خلال الحديث عن وظائف نجوم السماء وخصائصها.

1- النجوم تهدي بضوئها السائرين في ظلمات البر والبحر، قال الله عز وجل : {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}(الأنعام : 98)، قال ابن كثير  : (قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث ، فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر)(1) ، وقال عز من قائل : {وعلامات وبالنجم هم يهتدون}(النحل : 16).

2- النجوم تحرق الشياطين التي تحاول أن تسترق السمع في الملأ الأعلى، قال الله تعالى: {وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب}(الصافات : 7- 10) ، وقال أيضا : {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب}(الطارق : 1- 3)، وفي تفسير معنى “الثاقب” قال السدي :   (يثقب الشياطين إذا أرسل عليها)(2) ، وقال عكرمة : (هو مضيء ومحرق للشيطان)(3).

3- النجوم تسجد لخالقها وبارئها، قال الله عز وجل: {والنجم والشجر يسجدان}(الرحمان : 4)، وقال سبحانه :{ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وكثير من الناس}(الحج : 18).

4- بالنجوم تعرف بعض أوقات العبادات ، قال الله عز وجل: {ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}(الطور : 47)، فالمقصود بالتسبيح عند إدبار النجوم وجنوحها إلى الغيبوبة هو صلاة الفجر(4) ، فبداية إدبار النجوم علامة على حضور وقت صلاة الفجر.

5- النجوم زينة للناظرين ، قال الله تعالى: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}(الصافات :6)، وقال سبحانه: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح}(الملك : 5) ، قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب)(5).

يتبين من خلال خصائص النجوم المذكورة ووظائفها، أنها وسيلة للاهتداء وأنها مخلوقات تعبد الله تعالى وتسجد له، وبها تعرف أوقات بعض العبادات، كما أنها وسائل تصد الشياطين وتحرقهم، فهل نجوم الأرض لها من هذه الخصائص من شيء ؟ اللهم لا ، إلا من رحم ربك.

حاجتنا إلى التربية على النجومية الحقة

إنطلاقا من وظائف النجوم وخصائصها، ونظرا لشساعة البون بين كثير من نجوم الأرض ونجوم السماء ، تدعو الحاجة إلى ضرورة تصحيح هذا المفهوم ، وتسمية الأمور بمسمياتها ، وخصوصا في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين والمفاهيم، حتى غدا الحق في أعين البعض باطلا والباطل حقا.

ومن أهم ما ينبغي الالتفات إليه في سياق الحديث عن تصحيح هذا المفهوم ، مسألة تربية الأبناء على النجومية الحقيقية ، وتعريفهم بنماذج ونجوم من السلف والخلف ممن أقاموا الدين في أنفسهم وفي واقعهم وعمروا الدنيا بإنجازاتهم المهمة التي يسرت سبل العيش ويسرت على الخلق القيام بمهمة الاستخلاف ، حتى ينشأ أبناؤنا التنشئة الصالحة ويتربوا على الإنجازات التي تبني ولا تهدم ، فيسهموا بذلك في صلاح وطنهم وأمتهم ، ويتمكنوا من التمييز بين النجم الحق الذي يستحق أن يتخذ أسوة وقدوة  ، وبين النجم المزيف الذي لا حق له في النجومية ولا هو أهل لها.

إن النجومية الحقيقية التي يجب أن يتربى عليها النشء هي كل إنسان يصنع للبشرية مصباحا يضيئ لها الطريق، ومن هنا فإن أعظم النجوم على الإطلاق على وجه هذه الأرض هم رسل الله ومن سار على نهجهم في هداية الخلق إلى طريق الحق من العلماء العاملين والدعاة والمصلحين ومن سار على منوالهم.

إن النجومية الحقيقية هي النجومية الدالة على طريق الجنة والسعادة أبد الآباد وعلى الخلود في الجنة ونيل رضوان الله تعالى، وهي مرتبة الأنبياء والرسل ،  وفي حكمهم العلماء العاملون الناهلون من إرث النبوة الدالون على طريق الهداية ، وهذه أعلى المراتب وأسماها لأن نفعها متعدي إلى الغير ، بل نفعها عام يشمل صلاح البشرية في الدنيا والآخرة.

إن العالم والواعظ والداعي إلى منهج الله هو النجم الحقيقي ؛ فالعاصي قد يهتدي بإذن الله تعالى بسبب كلمة  أو توجيه أو موعظة من عالم أو واعظ ، فتنفعه بذلك الذكرى كما قال عز وجل: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، فيكون صلاحه ونجاته في الآخرة ، وقد قال بعض السلف إن فضل العالم المصلح أكبر وأفضل من فضل الطبيب ؛ فالعالم يسعى لصلاح قلبك الذي ستلقى به ربك عز وجل؛{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، والطبيب إنما يحاول علاج مرضك الحسي الذي قد لا يخرج عن مدى زمان عمر الإنسان ومع ذلك قد يفلح في ذلك وقد لا يفلح.

وهناك نوع آخر من النجومية التي ينبغي أن تقتفى حقا وهي التي يحققها أهل الأرض الذين يقومون الليل، حيث يتراءاهم أهل الملأ الأعلى من الملائكة، كما نتراءى نحن الكواكب في الأفق، فعندما يقوم الإنسان في الليل مصليا متهجدا يضاء بيته في الليل، وتتراءاه الملائكة، حتى إذا مرض أو سافر أو عجز عن قيام الليل، تساءل الملائكة ما الذي جعل بيت فلان غير مضاء الليلة ؟ وتستغفر له وتترحم عليه إن كان ميتا، وتدعوا الله أن يعود إلى القيام إن كان على قيد الحياة

ومن أنواع النجومية الإيجابية تلك النجومية المسهمة في تيسير حسن الاستخلاف وعمارة الأرض بما يعود على البشرية بالنفع والمصالح الدنيوية العظمى؛ مثل اكتشاف شيء جديد مفيد للبشرية، كإختراع آلات ووسائل تسهل الحياة على الناس (كالحاسوب والكهرباء والهاتف والعجلة والسيارة وما شابه ذلك…) ، كما يمكن أن يعتبر نجما كل من أسهم في درء المضار والمفاسد عن الناس كاكتشاف أدوية للأمراض الفتاكة، ومنع قيام الحروب ومحاربة الأسلحة المدمرة… وما شاكل ذلك.

وهناك أيضا النجومية الخاصة وهو الذي يحقق فيها النجم نجاحات هامة في حياته الدنيوية الخاصة، ومثال ذلك الناجحون في مجالات التجارة والمال والأعمال

ومن النجومية الحقيقية أن يزرع الإنسان في هذه الحياة خيرا، وأن يحمل هم الإسلام، وأن يكون نسخة من القرآن الكريم تسير على قدمين، ويتمثل القرآن في نفسه وفي محيطه كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض.

وأخيرا نسأل الله تعالى الهداية للتي هي أقوم في القول والعمل والحمد لله رب العالمين.

————-

1- تفسير ابن كثير ج 2 -  ص 160 من تفسره للآية 98 من سورة الأنعام

2- تفسير ابن كثير ج 4  -  ص 498  بداية تفسر سورة الطارق

3- المصدر نفسه

4– تفسير ابن كثير ج 4 -  ص 247

5– تفسير ابن كثير ج 4  -  ص 03  أنظر تفسر الآية المذكورة من  سورة الملك


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “التربية على النجومية الحقيقية

  • أزهر اللويزي

    إن النجم إذا لمع لا يحتاج إلى من يشير إليه، فكن نجماً في سماء الفضائل ولا تستهوينّك الشياطين !