ابن عباس ترجمان القرآن


إن من أعظم المنن أن يظفر المرء بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له، ولقد كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النصيب الأكبر من دعائه صلى الله عليه وسلم، ومن بين هؤلاء جميعا ظفر ابن عباس بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بالعلم والفهم، فكان نجما منيرا في سماء العلم، وبحرا زاخرا بكل صنوف الدرر من كل أبواب العلم. عن أبي صالح قال : لقد رأيت من ابن عباس رضي الله عنهما مجلسا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها فخرا، لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا أن يذهب، قال : فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي : ضع لي وضوءاً، قال : فتوضأ وجلس، وقال : اخرج، وقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه فليدخل، قال : فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال : إخوانُكم، فخرجوا، ثم قال : اخرج، فقال : من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل، فخرجت فقلت لهم : قال: فدخلوا حتى ملأوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم مثله، ثم قال : إخوانكم، فخرجوا، ثم قال : اخرج، فمن أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل، قال : فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال : إخوانكم، فخرجوا، ثم قال : اخرج، فقل  من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل قال : فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، قال أبو صالح : فلو أن قريشا كلها فخرت بذلك لكان فخرا فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس<(رواه أبو نعيم في الحلية 320/1).

وصدق فيه قول شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه حين قال :

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه

رأيت له في كل أقواله فضلا

إذا قال لم يترك مقالا لقائل

منتظمات لا ترى بينها فصلا

كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع

لذي أرب في القول جداً ولا هزلاً

ومما ينبئك عن غزارة علمه، وعلو كعبه، أجوبته على أسئلة ابن الأزرق ونجدة بن عامر، فعن حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه، قال : بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نابع بن الأزرق لنجدة بن عويمر -كانا من رؤوس الخوارج- قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه، فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقةٍ من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما، فقال نافع : أخبرني عن قوله تعالى : {عن اليمين وعن الشمال عزين}، قال : العِزُون : الحلق الرِّقاق قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :

فجاءوا يهرعون إليه حتى

يكونوا حول منبره عِزِينَا

قال : أخبرني عن قوله تعالى : {يكاد سنا برقه} قال: السنا : الضوء، قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول :

يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلا

يجْلُو بضوءِ سنَاهُ دَاجِيَ الظُّلَمِ

وسأله أسئلة كثيرة ذكرها السيوطي في كتابه الممتع “الإتقان في علوم القرآن” فأجاب عنها، وما أسقط منها سؤالا واحدا، فبان للحاضرين فضله، وظهر أمره، فكان حقا أن يلقب بترجمان القرآن.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>