المحاصرة التجويعية للتصفية بدون متابعة(1)


تحالف الكفار ضد الرسول صلى الله عليه وسلم :

قال ابن إسحاق : فلما رأت قُريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلداً أصابوا به أمنا وقراراً، وأن النجاشي قد منع منْ لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسْلم، فكان هو وحمْزة بن عبد المطَّلب مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلامُ يفْشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطَّلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علَّقوا الصحيفة في جَوْف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عِكرمة  -قال ابن هشام : ويقال : النضر بن الحارث- فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فشُلَّ بعض أصابعه.

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطَّلب إلى أبي طالب بن عبد المطَّلب، فدخلوا معه في شِعْبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لَهَب، عبد العُزَّى بن عبد المطَّلب، إلى قريش، فظاهرهم(2).

تهكم أبــي لهب بالــرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله فيه :

قال ابن إسحاق : إنَّ أبا لَهب لقي هنْد بنت عُتْبة بن رَبيعة، حين فارق قومَه، وظاهر عليهم قريشا، فقال : يا بنت عتبة؛ هل نصرتُ اللات والعُزَّى، وفارقتُ منْ فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت نعم، فجزاك الله خيراً يا أبا عتْبة، فكان أبو لهب يقول :

يعدني محمدٌ أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنةٌ بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يَديه ويقول : تبا لكما، ما أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد. فأنزل الله تعالى فيه {تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ وتَبَّ}(3).

صراع بين المروءة والوحشية أثناء الحصار:

قال ابن اسحاق : قد كان أبو جهل -فيما يذكرون- لقى حَكيم ابن حِزام بن خُويلد ابن أسد، معه غلام يَحْمل قمحا يُريد به عمته خَديجة بنت خُويلد، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه في الشِّعب، فتعلَّق به وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامُك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البخْتري بن هاشم، فقال: مالك وله؟ فقال : يحمل الطعام إلى بني هاشم؛ فقال له أبو البختري: طعامٌ كان لعمَّته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطَعامها؟! خلّ سبيلَ الرجل؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لََحْيَ بَعير فضربه به فشجَّه، ووطئه وطْأ شديدا، وحمزةُ ابن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومَه ليلاً ونهارا، وسراً وجهارا، مباديا بأمر الله لايتَّقي فيه أحداً من النَّاس.

—-

1- فهي محاصرة اقتصادية، ومحاصرة اجتماعية أيضا، إذ تم التنصيص فيها على عدم التبايع والتزاوج، وذلك قمة الابتلاء، وقمة التآمر المدروس لوأد الدّعوة.

2- ظاهرهم : صارعونا لهم ضدابن أخيه.

3- قال السهيلي : ((هذا الذي ذكره بن اسحاق يشبه أن يكون سببا لذكر الله سبحانه ((يديه)) حيث يقول  {تبت يدا أبي لهب} وأما قوله ((وتب)) فتفسير ما جاء في الصحيح عن ابن عباس لما أنزل الله تعالى : {وأنذر عشيرتك..} خرج رسول الله حتى أتى الصفا، فهتف : يا صباحاه، فلما اجتمعوا إليه قال : أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟؟ قالوا : ((ما جربنا عليك كذبا)) قال : فإني نذيرلكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : ((تبا لك ألهذا جمعتنا؟؟؟)) فأنزل الله تعالى {تبت يدا أبي لهب وقد تب} حسب قراءة ابن مسعود -فتكون الآية خبَراً، وليس الكلام فيها على جهة الدعاء، مثل {قاتلهم الله أنى يوفكون} فتبت يدا أبي لهب ليس من باب ((قاتلهم الله)) ولكنه خبر محض بأن قد خسر أهله وماله، واليد آلة الكسب، وأهله وماله مِمَّا كسَب. فقوله {تبت يدا أبي لهب} يفسره قوله تعالى : {ما أغنى عنه ماله وما كسب} أي خسرت يداه هذا الذي كسبت. وقوله {وتب} تفسيره {سيصلى ناراً} أي خسر نفسه بدخوله النار. إهـ من هامش سيرة ابن هشام 351/2 باختصار وتصرف.

وعلى هذا يكون لسورة المسد سببان للنزول : الأول ما قاله أبو لهب أثناء جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدّعوة، والثاني أثناء الحصار معتزاً بمناصرته قريشاً على ابن أخيه الذي لم يضع في يديه شيئا محسوسا.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>