أين نحن من اللغة العربية؟


د. محمد الغريسي – أستاذ وباحث في اللسانيات -

لقد أنعم الله علينا بلغة عبقرية، وحسبنا تشريفا أنها لغة القرآن الكريم، منبع البيان العربي.قال تعالى : {إنا أنزلناه قرآنا عربيا}(يوسف : 2) فهي لغة ثرية بالألفاظ، إذا قصر لفظ في توصيل المعنى تداعت لك ألفاظ أخرى تسعفك لتتخير منها ما يؤدي غرضك، حتى إنك تستطيع من اللفظة الواحدة اشتقاق ألفاظ أخرى. فهي لغة مطواعة لكأنها الأم الولود، تأذن لك بتوليد مفردات ومصطلحات تتفق وحاجة موقفك وضرورة عصرك، وتسمح بتعريب اللفظ الأجنبي، وتستقبل اللفظ الدخيل بصدر رحب، لأنها واثقة من قوتها.هذه اللغة التي أحبها غير العرب فأبدعوا فيها وألفوا كتبا ومجلدات، ومن هؤلاء : سيبويه، والزمخشري، والخوارزمي وغيرهم كثير. فكل هؤلاء الجهابذة تركوا لغتهم الأم وأحبوا اللغة العربية. فسيبويه على سبيل المثال، وهو غير عربي، ألف أعظم كتاب في اللغة العربية وهو “الكتاب” لأنه عرف قدرة اللغة العربية فشرفها بهذا الكتاب الذي قال في حقه المازني  :”من أراد أن يعمل كتابا  كبيرا في النحو بعد كتاب، سيبويه فليستحي”(1). وهذا الخوارزمي، وهو أيضا غير عربي، فارسي  يقول في حق اللغة العربية : “والله لأن أهجى بالعربية خير من أن أمدح بالفارسية”(2).

وهذا ابن جني،وهو، غير عربي (يوناني) يؤلف أعظم  كتاب في اللغة العربية وفقهها وهو كتاب “الخصائص” وكتب عظيمة أخرى(3). فليس هناك من اشتغل من العجم بالعربية إلا وفضلها، وغير هؤلاء الأعلام لا يحصى،هؤلاء  الذين اشتغلوا بالعربية وذاقوا حلاوتها وفتنوا بمحاسنها والتأليف فيها وفي علومها.

إذا كان الأمر كذلك فأين نحن اليوم -أبناء اللغة العربية- من هؤلاء القوم،وأين همتنا من همتهم؟

لاشك أن هناك مخاطر تحدق باللغة العربية نجملها فيما يلي :

- هيمنة اللغة الأجنبية،انجليزية كانت أو فرنسية ، إذ فرضت كثير من الدول لغتها في كثير من البلدان العربية عن طريق الاستعمار.

- كما أن القوة الاقتصادية أثرت في فرض لغتها على كثير من البلدان للتعامل التجاري والصناعي،فبات هذا التأثير يمر وسط نوع من لا مبالاة عامة،وإن كان هناك مقاومة، فهي محدودة للغاية ومحصورة، فأصبحنا أمام أزمة  سوء تقدير للغة العربية، لعلي أسميها درجة من درجات “الاستسلام الحضاري للغة.

- تدريس المواد العلمية باللغة الأجنبية. وهذه الظاهرة لا تكاد توجد إلا في العالم العربي والإسلامي، حيث حتى إسرائيل تعتمد اللغة العبرية لغة رسمية في كل شيء، هذه اللغة التي كانت في عداد الأموات قبل اغتصاب فلسطين.

- إن اللغة العربية ليست محصورة في النحو والصرف، بل تشمل علوما أخرى منها : علم البديع، علم المعاني علم البيان،فقه اللغة علم العروض والقوافي…، فأين نحن من هذه العلوم؟

إن اللغة العربية وعلومها، إذن، ضاعت بين يدي أبنائها وبني قومها فأصبحت هذه اللغة منحاة ومهمشة. فالكثير منا أصبح لا يتكلم اللغة العربية إلا نادرا، وحتى إن تكلمها البعض منا، فإنه يتكلم لغة عربية مهلهلة  تشمئز منها النفوس. وأحيانا يتكلم لغة عامية. بل إننا نجد الفئة المثقفة نفسها، داخل المؤسسات التعليمية، تتوخى إيصال المعلومات بالعامية عوض العربية. وأصبح البعض الآخر منا يفضل أن يتواصل بالفرنسية أو الأنجليزية عوض العربية، لأن الحديث أو التواصل باللغة الفرنسية والأنجليزية في اعتقاد هؤلاء يعتبر “موضة العصر”.

لقد تأثر أبناء الأمة العربية تأثرا شديدا باللغات والثقافات الأخرى، فاللغة العربية، إذن، ظلمت من طرف أبنائها، الذين  لم يعرفوا قدرها. هذه اللغة التي شرفها العلماء وعظموها وعرفوا أهميتها أحق المعرفة. ألم يقل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري في حقها  : “خذ الناس بالعربية فإنها تزيد في العقل وتثبت  المروءة”(4).

إن  نظرة تأملية فاحصة لهذه الحكمة ترينا مدى معرفة الفاروق بفلسفة اللغة العربية وخصائصها. فعندما قال :إنها تثبت العقول كان يدرك أن اللغة العربية أداة للتفكير، بها تكبر المدارك.وعني  بقوله : تثبت المروءة أنها تحلي الناطق بها بفضائل لا حصر لها، فتهذب لسانه وتقوي شخصيته وتذكي بديهته وتنير عتمة قلبه.

لقد أدرك هؤلاء العلماء الأجلاء، إذن، قيمة اللغة العربية فشرفوها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وذلك لما تمتلكه من خصائص تمكن المتكلم من التواصل  بأقل ما يمكن من الكلمات، هذه الخصائص التي  تنعدم في اللغات الأخرى والتي نجملها  فيما يلي:

- دمج الحروف

إذ تعتمد اللغة العربية على خاصية تمكنها من التواصل بأقل ما يمكن من الكلمات تتمثل في دمج الحروف، وهو ما يعبر عنه الدرس اللغوي القديم بظاهرة الإدغام، إذ تستغني عن كتابة حروف بكاملها، وقد تلجأ إلى حذف حروف. والأمثلة التالية خير دليل على ذلك. إذ نقول : (عم؟) وأصلها (عن ماذا)، وأيضا (لم؟) وأصلها (لماذا)، و(مم؟) وأصلها (من ماذا)….الخ.

- جعل الجملة قائمة على حرف واحد.

نقول في اللغة العربية (ف) من (وفى )، و(ع) من (وعى)،(ق) من (وقى)… الخ،فكل حرف من هذه الحروف إنما يشكل في الحقيقة جملا تامة لكونها أفعال وقد استتر فيها فاعلها وجوبا.فهل رأيت في غير العربية إيجازا يجعل الحرف جملة؟ وتتميز  اللغة العربية  أيضا  بسمات تمكنها من التواصل بأقل ما يمكن من الكلمات خاصة إذا قارناها بالأنجليزية أو الفرنسية مثلا، فهي   لا تعتمد على أفعال مساعدة،فكل معنى له كلماته المعبرة إذ نقول مثلا:  (أنا هنا) ولا تحتاج إلى أن تقول : (أنا أكون هنا)، ومن المعلوم أن العبارة الثانية أوجز وابلغ  من الأولى.بخلاف اللغة الانجليزية مثلا التي لا مفر لها من الأفعال المساعدة.

وفي العربية ألفاظ يصعب التعبير عن معانيها في لغة أخرى بمثل عددها من الألفاظ كأسماء الأفعال نحو  : (هيهات) ففي الانجليزية يقابله كلمات متعددة عوض كلمة واحدة حيث نقول : it  is too far

كما تعتمد اللغة العربية على أساليب تمكنها من التواصل بأقل ما يمكن من الكلمات، ومن ذلك أسلوب النفي وهو ضرب من ضروب الاختزال. ففي العربية نقول مثلا : (لم أقابله)، بينما في الانجليزية يعبر عن ذلك بألفاظ كثيرة، حيث نقول :did not meet him i،كما نقول في العربية :(لن أقابله)، بينما في الانجليزية

نقول: will never meet him i، وفي الفرنسية  نقول :

ne le rencontrerai jamais je

واللغة العربية لا تحتاج للدلالة على التثنية إلى أكثر من إضافة حرفين إلى المفرد ليصبح مثنى : (الباب-البابان -البابين)، في حين أنه لابد في الفرنسية والأنجليزية من ذكر العدد مع ذكر الكلمة، وذكر علامة الجمع بعد الكلمة فنقول في الفرنسية : deux portes les ونقول في الانجليزية: the tow doors.

وإزاء كل هذه المزايا والخصائص في لغتك العربية ألا يجدر بك أن تعتز بها وتحبها؟ أليس من حقها عليك أن تتذوقها وتستمتع بجمالياتها؟

إن معرفتك بخصائص لغتك العربية يعني احترامك لذاتك قبل اعتزازك بلغتك، فلغتك العربية لا تطلب منك شكرانا لها على جمالياتها، بل تناشدك -إن كنت تحبها حقا- أن تتدانى منها وتتعلم فنونها بإخلاص، فأنت بذلك إنما تصقل شخصيتك وتنميها وتعدها لشؤون الحياة.

وفي الختام، فإن كنت تحب هذه اللغة حقا فعليك أن تستمع إليها  فتطيل الاستماع،وتحاول التحدث والتواصل بها فتكثر المحاولة.

——

1- انظر ابن النديم، الفهرست،تحقيق رضا تجدد، طهرن- مصر، 1971، ص:57.

2- انظر كتابه : شرح المفصل في صنعة الإعراب الموسوم بالتخمير،المقدمة.

3- لمعرفة باقي كتب ابن جني الأخرى انظر الخصائص ج1 ص:60

4- انظر راشد علي عيسى، كتاب الأمة العدد: 103،رمضان، 1425 ص 69،الطبعة الأولى، 2004.

<  المصادر والمراجع

1- ابن جني أبو الفتح عثمان الخصائص،تحقيق محمد علي النجار،دار الكتب المصرية، القاهرة / 1952.

2- ابن النديم، الفهرست،تحقيق رضا تجدد، طهرن- مصر، 1971.

3-الخوارزمي،صدر الأفاضل القاسم بن الحسين، شرح المفصل في صنعة الإعراب الموسوم بالتخمير، تحقيق : عبد الرحمان بن سليمان العثيمين، دار الغرب الإسلامي،ط 1،1985.

4- راشد علي عيسى، كتاب الأمة العدد: 103،رمضان، 1425 ص 69،الطبعة الأولى، 2004

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>