أركان التخلف عن ركاب الحق


ابتُليت الشعوب الإسلامية في القرون الأخيرة بضعْف شامل على كلِّ المستويات، على مستوى الفكر أولا، وعلى مستوى العلم ثانيا، وعلى مستوى الثقافة ثالثا، وعلى مستوى السلوك أخيراً.

فعلى المستوى الفكريِّ لم يَعُدْ لهم طموحٌ يسْعوْن لتحقيقه سواءُ على مستوى التّسْخير لخيراتِ هذا الكون الذي ينعمون بهوائه وشمسه وبرِّه وبحْره، أو على مستوى الابتكار للعلوم التّجريبية المساعدة على تسهيل الحياة على هذا الكون، أو على مستوى الابتكار لـمُخْتلف التنظيماتِ، والتّقنيناتِ، والاجتهادات الكفيلة بوضْع المبادئ القرآنية، والمبادئ الإسلامية، محطَّ التدْوين، والتّقْسيم، والتعليم، والتفْهيم، والتسيير، والمراقَبَة المستمرّة، ومتابعةِ ذلك بالمجازاة ثواباً وعِقاباً وتأديباً وإنْذاراً وتحذيراً إلى غير ذلك من التّقنيات التي تجعَلُ العَدْل -مثَلاً- كمَبْدإٍ مأمور به في القرآن -بصفة عامة- معْرُوفة أرْكانُه وشروطُه وأسُسُه وكماليَاتُه وأدبيَاتُه في المحكمةِ والإدارة المدنية والعسكرية، والدواوين الوزارية، والرئاسية والتشريعية والتجارية والسياسية… حتى يصبحَ العَدْلُ شيئا ملموساً متعارفاً عليه بين الصغير والكبير، والأمير والأجير، والغنيِّ والفقير…

وطُرُق الإنكار على من خَالَفَه معروفةٌ للجميع، وطُرُقُ التشْهير بالمخالفين كذلك مشروعة معروفة،

كلّ من ظُلم لهُ الحقّ الكامِل في الصّراخ والجُؤار،

ومعاقبةُ من ساعد على مظلمة، أو سَكَت عنْها، أو جامَلَ فيها، أو داوَر ورَاوغَ معروفة..

وهكذا حتى لا يبْقى مبْدأ العَدْل موْكُولاً إلى أرْيحيّة بعض الوَرِعين الذين قلّما يجودُ بهم الزمان، أو مَبْدَأً هُلامِيّاً خاضعاً لتأْويلاتِ بعض المُغْرضين المفسدين

وقُل كذلك في مبدأ التعليم للمرأة، ومبدإ المعاشرة الحسنة للمرأة، ومبدإ القوامة الصالحة، والطاعة المُبْصرة للزوج، والأب، والأستاذ، والوالي، والشرطي، والوزير، والحاكم، والقانون، والعالم.

وقُلْ كذلك في المحافظة على العرْض، والعقل والمال، والنفس… إلى غير ذلك من المبادئ الإسلامية التي بَقِيتْ -في القرون الأخيرة- شِبْه أشْباحٍ خَيَالِيّة، أو مجَرّد خواطر وأطيافٍ محنّطةٍ لا لمْس لها، ولا رائحة، ولا طعم، ولا وجودَ لها على أرْض الواقِع والسُّلوك الفردي والأسَرِي والاجتماعيّ والسياسي لتَفَشِّي الأنانيّة المُفرطة، والوحْشية المُقنَّعة.

أمّا المبدأ الكبيرُ الذي أصابه  العَطَبُ مبكّراً فهو مبدأ ((الشورى)) الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على تربية المسلمين عليه في كلّ موقفٍ لم ينزلْ الوحي فيه، وكان الخلفاءُ الراشدون رضوان الله عليهم أشدّ الناس تمسّكا بالشورى، إلاّ أن القَرْن الأول الهجريّ لم يكَدْ ينْتصِف حتّى بدأ الفِصَام النكِدُ بين القرآن والسلطان يدِبُّ في أوصال الأمة الإسلامية إلى أن وصَلَ الأمْر أخيراً إلى دَفْنِ هذا المبدإ وإهالَة التراب عليه، فَدخلتْ الأمة عصْر الدكتاتوريّة الفرعونيّة، أو -بالتعبير النبوي- عصر الحكم العضوض، أو الحكم الجَبْري، حيْث انتقَل الحُكم من الوسيلة إلى الغاية، ومن المسؤولية إلى المغْنَم، فتوالَتْ انقساماتُ الأمة على أساس الظفَر بغنيمة الحكم، حتى وصل الأمْرُ -أخيراً- إلى الفصْل التام بين السياسة والدّىن، ومُعاقبة مَنْ يُنادي بإرجاع الأمة إلى شريعتها وأصالتها، بل وصَل الأمْر إلى التباري على الحُكْم وشراءِ الضمائر والذّمَم -من غير تحرُّج أو تنزُّه وتورُّع- قصْد الوصول إلى كُرْسيّ التحكُّم الخادِم للمصْلحة الفرديّة أو الحزبيّة الخاصة أوّلاً وأخيراً.

ولمْ تُحْسِنْ أجْهزةُ الحكم في مختلف الشعوب المسلمة -على الأقل- حتى التشبُّه بالدّول العريقة في الحداثة والديمقراطية التي تدّعي تقليدَها والاستيراد منها.

وعلى مستوى الفكر أيضاً لم يَعُد للشعوب المسلمة أُفُقٌ بعيدُ المنَال أو قريبُه يسْعَوْن لإدْراكِه بعِلْم وتخطيط، وحماسةِ إيمانيّة متوهِّجة، تهوِّنُ التضحيةَ بالوقت والرّاحة والمَالٍ والرّوح والرّغبات الهابطة في سبيل الوصُول إلى اختراق ذلك الأفقِ المرسوم في الخيال  الإيمانيّ الذي لا تسَعُه الدّنيا الضيّقةُ، ولكنّه لا يرْضى إلا بحَطّ الرّحَال في دَار السلام المُعدّة في الآخرة لكل من عاش حياتَه بسلام شامِلٍ مع النفس والأُسْرة وكُلِّ نوازع الحياة، ونوازِع المادة، ونوازع الشهوات.

> فما هو الأفقُ البعيدُ الذي كان يرنو إليه بَصَر ربْعي بن عامر رضي الله عنه عندما خاطب قائد الفرس بقوله : ((إنّ اللّه ابْتَعَثنا لنُخْرِج النّاس من عِبَادة العِباد إلى عِبادَة ربّ العِباد، ومِن ضَيْقِ الدّنيا إلى سَعَةِ الآخرةِ، ومِن جور الأدْيان إلى عدْل الإسلام)).

> وما هو الأفق البعيد الذي كانت ترْنُو إليه هِمّة ذلك الصحابيّ الجليل الذي أغْضب قائد الفرس فقال لجنوده : احْمِلُوا على ظهره كِيس التراب ازدراءً له واحتقاراً- ليوصِلَه إلى قائده سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فحمََلَه مستبشراً متفائلا فرحاً مسروراً حتى وصلَ إلى القائد سعْد ابن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال له : ((أبْشِر بفَتْحِ الفُرْسِ فتُرابُها الذي حَمَله عليّ قائِدُ الفُرْس هو بمثابة المفاتيح التي أعطَاك إيّاها لفَتْح البِلاد)) قراءةٌ بعيدةٌ جدّاً لا يفهمُها إلا أصحاب النّظر البعيد الذين قرأوا القرآن والإسلام والسُّنَن الربانية، والتاريخ المسْطُورِ في كتاب الله تعالى بعَيْن نورانيّة، تَرى مالا تراه الأعْيُن الترابيّة.

> وما هو الأفق البعيدُ الذي انطلق منه خالد بن الوليد رضي الله عنه، عندما قال للصحابيّ الذي قال له -في موْقِعة اليرموك- : ((ما أكْثَرَ الرُّومَ وأقَلّ المُسْلِمِين))؟؟ فقال له : بل قُلْ : ما أقلَّ الرومَ وما أكثر المسلمين!! فنَحْن لا نُقاتِلُ الرُّوم وغيْرهم بكَثْرة العدَد وقوّة العُدَّة، ولكِنّا نُقاتِلُهم بقُوّة اللّه تعالى وقُوّة هذا الدِّين الذي نَدْعُو إِلَيْه لإخْراجِ النّاسِ من الظُّلُماتِ إلى النّور -أو كما قال- أيُّ أفُق كان ينطلق منه لِقراءة الواقع قراءةً جيدةً، وفَهْمِه فهماً نوارنِيّاً ينْطَلِق من الدّنيا للآخرة، ومن الهُدَى للضلال، ومن الحقّ للباطل، ومن الحياة الحقيقيّة لحياة دِيدَان الطين.

> وما هو الأفق البعيد الذي كان ينطلق منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما زار أبا عبيدة رضي الله عنه في الشام، فأراد أن يتغذَّى عند قائده ليعرف عن كثب حياة قواده، وأكْلَهم، ولِباسَهم، ويخْتبِر ثباتَهُم أو تغيُّرهم، فعندما دخَل عُمرُ الخليفة إلى بيت أبي عبيدة الذي هو مرْكَزُ قيادته، وجَد عِنْده قِرْبة ماء يشْربُ منها ويتوَضَّأ، وشيئاً من كِسَرِ الخُبْز اليابسَة، فوضَعَها غِدَاءً لخليفته الذي جاء إليه زائراً ومُخْتبراً، فقال أبو عبيدة لخليفته ((كُلْ يا أميرَ المؤمنين، أنا نصحتُك بأن تتغذّى عِند غيْري)) فقال عُمر الزاهِد، وهو الخليفة الذي ترتَعِد من اسمه الفرائص : ((لقَدْ تَغَيّرنا بعْدَك يا أبا عُبَيْدة))!! لقد جاء مُمْتحِنا فانْقلَب على نفسه عاتباً لائِماً، لأنه وجَدَ من هو أزهَد منه في الدّنيا التي بَسَطَتْ على الرّعيل الأوّل ثمارَها وغنَائمها، فلم يغْتروا بها، ولكنهم بَقُوا كما تركَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْغَب في الآخرة ورضْوان ربِّهم.

إن القرون الأخيرةً لنُضُوب مَعِين الروح المغترفة من الزاد الحقيقيّ، زادِ التقوى، ولِباسِ التقوى، وحرَكة التّقْوى، ونظرة التّقوى، وأُفُق التقوى، جمَّدَتْ الأفكارَ والمشاعِر وبلّدَت الإحْسَاسَ، وأعْطَبَتْ الفِقْه الحُكْمِيَّ، والسياسِيّ، والاقتصاديّ، والعَسْكريّ، والفقه التعامُليّ، والسلوكِيّ في كل مجال، فأصبحت الشُّعوبُ تعيش كالقُطْعان الحيوانية، أو كالآلات المتحركة حسَب إرادة صاحبها، لا تتوفّر على إرادة حرة خَلاّقة، ولا تصْدُر منها بادِرة مُشْعِرةُ بقوة الحماس الداخليّ، وقوةِ الإيمان المقدّر للمسؤولية، وقوة الغَيْرة على كرامةِ الإنسان وانتكاسة مصَائره وحضارته.

أما على المستوى العلمي فقد كان التخلُّف فيها أشدّ، نظراً لعدم تغْيير النَّمط الذي سارت عليه الشعوب الإسلامية في تلقِّي العلم وتلْقينه مُنْذُ مئات السنين، إذ لَمْ يقع الاهتمام بالعلم على مستوى الماسكين بزمام السلطة السياسية والعلمية والفكرية، من حيْثُ التخطيطُ، والتطوير، والبرمجة، والتنظيم، والإعداد، والتأسيس للمدارس والكليات، والتفريع للشُّعَب، ورعايتها، واختيار الأطر المؤهّلة للنهوض بها،…

بل بقي الأمْر موكُولاً إلى رغبات الأفراد وهِمّة المحسنين، وذلك خَيْرٌ عظيم، ولكنه كان في حاجة إلى التنمية المنظمّة والتوجيه الهادف، فكم نَبَغَ في الشعوب الإسلامية من علماء في مختلف التخصصات، لغةً، وأدباً، وفقها، وتأصيلا، وطبا، وهندسة، وفلسفة، وحسابا، وجغرافيا، وتربية سياسية وعسكرية وعلمية… ولكنّ كُل ذلك كان يُقْبَرُ بموت أصحابه، ويُنْسَى في الوقْت الذي كانت الوفُود الأوروبية تأتي لتتعلّم من جوامعنا، وتنقل ما تتعلّمُه إلى بلادها لتطوِّره وتُفعِّلَه وتؤسس له المؤسسات..

فماذا استفذنا نحن من ابن خلدون، والرازي، وابن زهر، وابن سينا، وأبي حيان، وابن فرناس، والغزالي، والإدريسي، وابن رشد، وابن تاشفين، وابن تومرت، وابن ياسين، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وابن تيمية، وابن حنبل، والبخاري، ومسلم، والشاطبي، والطبري، وابن الأثير، وغيرهم وغيرهم…؟؟! وماذا استفاد غيرنا من علمائنا؟!!

إنّ انشغال الجهَلَة بالحُكْم، والصراع من أجله، وغيبتَهم التامةَ عن الميادين العلمية والتربويّة، قسَّم الأمّة والشعوبَ والأُسَر على أساس المطامع، ووجّهَهَا وِجهة ماديةً صِرْفة، فسادتْ ثقافةُ الجهْل والتملُّق والتقاتل على مطامع الدنيا، فخمَدَت الهِمَمُ والأرواح، ونشأ عن كل ذلك سُلوك ينتسب للإسلام زوراً وبهتاناً.

وعندما أطلّتْ الحضارةُ الغربيّة على العالَم بتفوُّقها في علوم الطبيعة، وعلوم الآلات، وعلوم الصناعات والاختراعات، وعلوم الحساب الدقيق، وعلوم الاقتصاد المنظّم، وعلوم السياسة المقنَّنة، وعلوم الحكْم المُدسْتَر، وعلوم الحرب والسلم المدروسة بعناية، وعلوم الإدارة المتقَنة، وعلوم التخطيط لكل شيء، والتخصّص الدقيق في كل شيء علماً كان أو فَنّاً، جداً كان أم تندُّراً وتفكُّهاً.. انهارت الشعوب الإسلامية أمام هذا التفوق الساحر الغازي، وانبهَرَتْ به انبهاراً كاملاً إلى حدّ الافْتِتَانِ والذّوبان ونسْيان الذات.

وما ذلك إلا لأن التفوقَ الغربيَّ وجَد الشعوب المسلمة :

> محاصرة بالجَهْل، والتخلُّف، والاستبداد، والفقر، والمرض، والفوضى، وتسْييد الأفراد، وتحنيط المقدّسات البالية.

> وجدَها تعيش بدون هدفٍ ولا رسالة، وبدون حُكم مقنّن، وبدون عِلمٍ مُؤصّل مُنظّم، وبدون سياسةٍ مدروسة مُعدٍّ لها سابقُ تخطيط وتدبير.

> ووجدها تعيش بدون شورى منظمةٍ على المستوى المحلي والوطني والأسري، فالأب مستبد، والأخ الأكبر مستبد، والمقدّم مستبد، والقائد مستبد، والعسكر مستبد، والزوج مستبد، فالاستبداد ضاربٌ أطنابَه كأنه هو الشرع المُحَكَّم.

> ووجَدَها تعيش منعزلةً عن العالم لا تخطيط مدروس للسياسة الخارجية، ولا هدف مرسوم لكيفية التعامل مع الأصدقاء وذوي الأطماع من الأعداء، ولا مجالس مختارة لذوي الرأي من العلماء والخبراء يُسْتَشارون ويؤخذ برأيهم.

وفي الجملة شعوبنا كانت -ومازالت مع الأسف- تعيش بدون تخطيط مدروس للمستقبل المحلي والعالمي، أو الداخلي والخارجي، كأنها ليس لديها كتابٌ يقول لها {يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}(الحشر : 18) فالغدُ وإن كان أخرويا، فهُوَ غَدٌ دنيويٌّّ للفوز بالغد الأخرويّ، فلا آخرة بدون دنيا، ولا فوز بدون امتحان.

وعندما تخلّينا عن الأستاذية التي وضعنا الله عز وجل فيها عاقبنا الله تعالى بأن أرجعنا إلى مقام التلمذة لنتَلَقَى دُروساً دنيوية، بعد أن كنا أئمة في الدين والدنيا، يوم كنا نتبع الكتاب الذي قال فيه الله تعالى {كتابٌ أنزَلْناه إليك لتُخْرجَ النّاسَ مِن الظّلماتِ إلى النّورِ بإذْن ربِّهِم إلى صِراطِ العزِيزِ الحَمِيد}(ابراهيم : 1)

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>