أساس اكتساب القوة الحقيقية


ذ. خالد بلاني

إذا كان الله تعالى هو الحقّ المبين وغيرُه هو الضلال المبين، وإذا كان الإسلام هو الدِّين وغيرُه هو الهُرَاء، وإذا كان الرُّسُل وورثتُهم هُم الدُّعاة وغيرُهم هُم الأدْعِياء الكذَبَة المُفْترين، وإذا كان الله عز وجل هو الآخِذ بالنَّوَاصِي والأقْدام على الدَّوام، وهو مَالك الدُّنْيا والدِّين، وغَيْرُه لا يمْلك لنَفْسِه ذرَّةً من تُرابٍ أو نفْحَةً مِنْ هواءٍ إلاَّ بإذْنه وأمْره إلى يوم الدِّين… أفَيُعْقَلُ أنْ يتمسّك الإنسانُ -إذا كان عاقِلاً- بخيُوطِ العنْكَبُوت الواهِية ويَتْرُك التمسُّك بحَبْل الله المَتِين؟! أَلَمْ يَقُل الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين {فَاسْتَمْسِكْ بالذِي أُوحِيَ إِلَيْك إِنَّك عَلَى صِراطٍ مُسْتقِيم}(الزخرف : 42)؟! وألَمْ يقُل للمسلمين جميعاً في شرْق الكرة الأرضية وغَرْبها وشمالِها وجنُوبها {واعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا}(آل عمران : 103)؟!

بالنِّسبة للمسلمين جِهةُ القوّةِ الحقيقيّة الفاعِلة واحِدةٌ لِمَنْ أبصَرَها قديماً بنُورِ اللهِ تعالى، ولِمَنْ سيُْبصِرها حالياً ومستقْبلاً بنُور الله تعالى الذي هو نُورُ السماوات والأرْض!! إنها جهَةُ اللّه تعالى، جِهَة الاحتماءِ بولاية الله عزّ وجل {اللّهُ وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُم الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم من النُّورِ إلى الظّلُمات أُولئِك أصْحَابُ النّارِ هُم فِيها خالِدُون}(البقرة : 256).

ولقد قال الله عز وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم يوم كان يُعاني -مع قلّة من المومنين- حملاَت التشْويه والتمْسِيخ الإعْلامي، وحَملاَت التهْديد بالأذَى والتًّصْفية التجاريّة والاقتصاديّة والجسديّة، قال له :

> {وذَرْنِي والمُكَذِّبِين أُولِي النّعْمةِ ومهِّلْهُم قَلِيلاً}(المزمل : 10).

> {ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُودا وبنِينَ شُهُوداً ومهّدْتُ له تمْهِيداً ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيد كلاَّ إِنه كان لآياتِنا عَنِيداً}(المدثر : 16).

> {فذَرْنِي ومَنْ يُكَذِّبُ بهذَا الحَديث سنسْتدْرجُهم من حَيْت لا يعْلَمُون وأُمْلِي لهُمْ إنّ كَيْدِي مَتِينٌ}(القلم : 44).

> {كلاَّ لَئِن لمْ يَنْتَهِ لنَسْفَعاً بالنّاصِيةِ ناصِيةٍ كَاذِبةٍ خاطِئَةٍ فلْيَدْعُ نادِيَهُ سنَدْعُ الزّبَانِيّة كلاّ لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ}(العلق : 20).

> وعندما كثُرت الإذاياتُ والضّربَاتُ قال الله له وللمسلمين : {إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِين الذِين يَجْعَلُون مع اللّه إلِهاً آخَرَ فَسَوْفَ يعْلَمُون}(الحجر : 96) قبْل أن يَصِلَ إلى درجة القنوط وشِبْه اليَأْسِ التي وصلَ إليها صاحبُ الحوت عليهالسلام الذي هرَب من عِناد قومه مغاضِباً، وقبل أن يصِلَ إلى درجةِ إعْلانِ الانْهزام البشريِّ وتفويض الأمر لله تعالى أمامَ عناد الكُفّار الذين لَمْ يزِدهُم مالُهم وولَدُهم وأتْباعُهم إلاّ خساراً كما وقَعَ لنوحٍ عليه السلام الذي جأرَ بالشّكْوى الحارّةِ إلى ربِّه كَيْ يُطَهِّرَ الأرضَ من الكفار الذين لم يلدُوا إلا فاجِراً كفّاراً فقال : {إنِّي مغْلُوب فَانْتَصِر}(القمر : 10) وقال : {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ من الكَافِرِين دَيّاراً}(نوح : 28)، {ولاَ تَزِدِ الظّالِمِين إلا تَبَاراَ}(نوح : 30).

دَعواتٌ إن كانتْ متناسبةً مع الحكمة الربانية، ومع عُقول مُغْلقَةٍ مُتَصَلِّدة -في فجْر التاريخ الإنساني- ميؤوسٍ من تفتحِها لاستقبال نور الهِداية من رسول الله نوح عليه السلام،… فإن اليأسَ غَيْرُ متناسِب مع دعوة خاتم المُرْسَلين المبعوث رحمة للعالمين، ولذلك تداركه اللهعز وجل بلطفه وكفاه شَرّ المستهزئين.

> وعنْدما تكوّنتْ العُصْبةُ المؤمنةُ النموذجيةُ -في الصدق والإخلاص والطاعة- وراءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم القُدْوة في كُلِّ شيء طمْأنهُم الله تعالى بحمَايتهم وبَسْط الوِلاَيةِ لَهُم، فقال لهُ ولهم سحبانه وتعالى {يَا أيُّها النّبِيءُ حَسْبُك اللّه ومَن اتّبَعَك مِن المُومِين}(الأنفال : 65).

> ووعَدَ العُصْبةَ المُؤمِنةَ القليلةً العَدَد كّمّاً بجَعْل قُوتِها وزناً وكيفيّةً ونوعيّةً أضعافاً مُضاعفةً عند حُلُول نقْطة الصِّفْر في منازلَة الكفر الطاغي الجاحِد، فقال تعالى : {إنْ يَكُنْ مِنْكُم عِشْرُون صَابِرُون يَغْلِبُوا مائَتَيْن وإنْ تَكُن منْكُم مِائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً من الذِين كَفَرُوا بأنّهُم قوْمٌ لا يَفْقَهُون}(الأنفال : 66).

أمّا سِرُّ التّفوقِ الكَيْفيِّ المُعْجز فيكمُن في أن الْفِئة المؤمنة:

1) تفْقَهُ حِكْمَة خلْقِها ووُجُودِها، فهي خُلقَت لطاعةِ الله وعبادتِه، وليس للأَكْل والتّمتُّع كالأنْعَام.

2) تفقَهُ الغايةَ مِن عبادتِها وطاعتها، وهي التمكين لدِين الله تعالى في الأرض، والفوز برضا الرّحمان يوْم العَرْض.

3) تفقَهُ أن الهُدَى هُدَى الله، الذي أنزلَه لتخْليص الناس من سُلْطان البشر الغشوم إلى سلطان البَرِّ الرحيم.

4) تفقه أن الله الخالق الرازق الهادِيَ الحاكم المشرِّع بحق هو الذي يستحقُّ أن يُدَان لَهُ بحق أمّا غيْره فمغتصِبٌ للأُلُوهِية بغيْر حقٍّ ولا بُرْهان.

5) تفقه أن التمكين لها ليس للاستعْلاء والاستمتاع والظلم والطغيان، ولكن لتنظيف الأرض من طيش الطائشين، وغرور المغرورين، وظُلم الظالمين، ولرحْمة البؤساء والمحرومين.

6) تفقه أن الله عز وجل لا يُعجِزُه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ولكن الحكمة الربّانية العُلْيا تقتضي وجُودَ أهْلِ الحَقِّ لإقامَة الحق بالحَق، فبقَاءُ  لَيْل الظلْم رَهْنٌ بطُلُوع فَجْر أهْل الفجْر.

هذا بعْضُ الفِقْه الغائب -تماماً- عن شَرِّ الدّوابّ عند الله، الصُّمِّ البُكْم الذين لا يعْقِلون ولا يفقَهون، لأنهم لا يرْفعون للسماء رأسا، ولا يسْجُدون خضوعاً وتضرعاً.

إذن التّوكّل على الله وحْده، والاعتصامُ بحبْله المتين، والاستمساك بوَحْي الله عز وجل وصراطِه المستقيم.. هو الأساسُ الأساسيُّ في اكتساب القوة الحقيقية التي لا تغْلبُها قوة، ولا تُعْجزها قوّةٌ مهما طغَتْ وتجبَّرت.

أمّا نِعَمُ تحقيق هذا الأساس في النفس المؤمنة فإنها أكْبَرُ من أن تحصى، وهذه إشارة إلى بعضها فقط :

1- الحُصُول على شَهادَة الاسْتِحقَاق من ربّ العالمين : وكفَى بالله شهيداً {وألْزَمَهُم كلِمَة التّقوَى وكَانُوا أحَقّ بِها وأهْلَهَا}(الفتح : 26).

2- الحُصُول على وِسام الرِّضَا من ربّ العالمين : وكفى به وساماً {لَقَدْ رَضِيَ اللّه عن المُومِنِين إذْ يُبَايِعُونَك تحْت الشّجَرة فعَلِم ما فِي قُلُوبهم فأنْزَل السّكِينة عَلَيْهم}(الفتح : 18) {رَضِيّ اللّه عنْهُم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِك لِمَنْ خَشِيَ ربّه}(البينة : 8).

3- الحصولُ على وعْدِ الله بالثّباتِ على الحَقِّ : ومَن أصْدق من الله قيلا؟؟ {يُثَبِّتُ اللّه الذِين آمَنُوا بالقَوْل الثّابِت في الحياة الدّنْيا وفي الآخرة}(ابراهيم : 29).

4- الحصول على اطمئنان النفس وسعادتها : وأيّ سعادة تعادل سعادة الطمأنينة الإيمانية؟! {الذِين آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْر اللّه ألاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمئِنُّ القُلُوب}(الرعد : 29).

5- الحصول على معية الله تعالى : وماذا يَفْقِد من كان الله معَه؟! {إنّ اللّه مع الذِين اتّقَوْا والذِين هُم مُحْسِنُون}(النحل : 128).

6- الحصولُ على معيّة الله تعالى وجُنْدِه ونصْرِه : وقْتَ تعَالِي الاستغاثَةِ المُضْطَرَّةِ الخَالِصَةِ، {إذ تستغيثون ربّكم فاسْتجَابَ لكم أنّى مُمِدّكم بألفٍ من الملائِكَة مُردَفِين}(الأنفال : 9) {ربّنا أفْرغْ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانْصرنا على القَوْم الكافِرين فهَزَمُوهم بإذن الله}(البقرة : 249) {يا أيّها الذِين آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمة الله عليكم إذْ جَاءَتْكُم جنُود فأَرْسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لـم ترَوْها وكــان الله بِما تعْملون بصِيراً}(الأحزاب : 9).

فمن يقدِرُ مثل قُدرة الله تعالى أيها المُحتمُون بقوة البشر الضعيف؟! ومن يفعَلُ مِثْلَ فِعْل الله تعالى أيُّها الغافِلون المُوارِبُون؟! وأيُّها المُرْتعبون من هَواجِسِهم وأوهامهم وظلّهِم؟! وأيها الغارقون في مُسْتنقع التبعيّة الذّليلة للطغيان المتوحش؟!

إذا كان المسلمون يمرُّون بأزمة خانقة على كل صعيد، وحصار إعلاميٍّ وثقافيٍّ عالميّيْن فالملْجأُ الوحيدُ : الفِرَارُ إلى اللّه تعالى، الانحيازُ الكامل لله تعالى، الاصطفافُ التام في الصفّ الربّانيّ، والتجنُّدُ الصادِق في سِلك الدّعوة الربّانيّة، علّ الله عز وجل يتفضَّلُ علينا بالهداية والقبُول بالتّسْجِيل في صفّ عبادِه الذين لا خَوْف عليهم ولا هُم يحْزنُون {أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُه على تَقْوَى من اللّهِ ورِضْوانٍ خَيْرٌ أم مّن أُسِّسَ بُنْيانُه على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّم واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِين}(التوبة : 110)؟!!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>