تفسير سورة الطلاق


24- {فإنْ أرضَعْنَ لكم فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ واتمِرُوا بيْنَكُم بمعْرُوف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}

تفصيلُ الله تعالى للأحكام ضمانٌ للعَدالة الشاملة

لازلنا مع كتاب الله يتحفنا بالأحكام الكثيرة المرشدة إلى إنشاء المجتمع الصالح الذي ينال فيه كل فرد حقه ولا يُعْتَدَى فيه عليه، والموقف الذي تحدث فيه كتاب الله تعالى موقف خاص، هو موقف الطلاق والفراق وما يستتبع ذلك من شنآن وغضب ربما يؤدي إلى اضطراب الحقوق، وربما يؤدي إلى العدوان، وإلى الظلم.

فلذلك أصَّلَ الله الأحكام كلها وفصَّلها وبينها لأن لا يُظْلم لا زوجٌ ولا زوجة ولا أبناء.

وقد بينت أن الضحية المباشرة لهذه الحالة ربما يكونون هم الأطفال، والأطفال بعد أن تنفصم العرى الزوجية يعيشون هذا الجو المتوتر، هذا الجو المكهرَبَ، يكونون بلا شك متأثرين به، وينالُهم شيء من شح الآباء، ومن غضب الأمهات، فيتأثرون من ذلك كله.

ضمان الغذاء للأطفال ضمان لأهم الحقوق

فرض الله تعالى بأن يرعى هؤلاء الأطفال، وهم أجِنَّةٌ في بطون الأمهات، فأوجب الله تعالى النفقة على الحوامل {وإن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفقُوا عليهن} حتى لا يتأذى الطفل بسوء تغذية الأم.

ثم  إذا خرج الأطفال إلى الوجود فيجب أن يُكْفَل لهم طعامُهم، والطعام حينئذ هو اللَّبن الموجود في صدر الأم، يتحمله في الحقيقة الأب، إن كان متصلا بالأم، وموجودا في الأم، فإن تعذر عليها أن ترضعه اللبن لمرَضٍ ألم بها أو لأن ثَدْيَها شَحَّ به فلم يوجد فيه لَبَنٌ، فلا يجوز أن يكون الطفل ضحية.

إذن فلابد أن يبحث للطفل عن طريق  آخر للتغذبة، وقديما كان الناس يلجؤون إلى البحث عن مرضع للأبناء، أو أنهم كانوا يرضعونهم لبن البقر لتغذيتهم، فالمهم أن الأب حينئذ يتحمل هذه القضية {فإنْ أرضَعْنَ لكم فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ واتمِرُوا بيْنَكُم بمعْرُوف} الإئتمار هو التشاور والتحاور، وكل يبدي وجهة نظره، أمٌّ تبدي رأيها، والأب يبدي رأيه وهذا هو الإئْتِمَار فيما بين الزوج والزوجة.

فالمفروض أن الأب والأم يأتمران ويتفاوضان ويتشاوران على قضية الإرضاع، فإن قبلت الأم الإرضاع فإن الأب يُعَوِّضُهَا في ذلك وهذا هو الوضع الطبيعي السليم.

لاحق للأم في الامتناع عن الإرضاع إذا لم يقبل الطفل مرضعة أخرى

ولكن الأم إذا هي امتنعت عن الارضاع لسبب من الأسباب، أو لأن هذا الأجر المرصود لها لا يكفيها، فيمكن للأب حينئذ أن يلتمس له مرضعة أخرى {وإن تعَاسَرْتُمْ فسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وإذا لم يقع إجماع على فكرة يمكن أن يطلب لهذا الطفل مرضعة أخرى ترضعه ويُحْسَمُ الموقف مالم يكن هذا الطفل رافضا لثدي امرأة أخرى، فإن كان الطفل لا يرضع إلا أمه فحينئذ يتعين عليها وجوبًا إرضاعُه لأن الفرائض عمومًا إذا لم يصلح لها إلا شخص واحد فإنها تتَعَيَّنُ.

هذه مسألة معروفة حتى الفرض الكفائي إذا لم يصلح له إلا فردٌ فإنه يتعين مثلا كوجود أطباء مثلا في بلدة ما يجب على جميع الأطباء على وجه الكفاية أن يعالجوا المرضى في المدينة، فإن عالج البعض سقط التكليف عن الباقي، لكن إذا لم يوجد في المدينة إلا طبيب واحد، أو وُجِد أطباء آخرون ولكن ليس لهم ذلك الاختصاص، أي وجد طبيبٌ واحد لذلك المرض، أي صالح وقادر على أن يعالج ذلك المرض إذن فيصير معالجةُ ذلك المريض بالنسبة له فرضًا عيْنِيًّا، فإن تركَهُ يعتبر آثما وإن مات المريض يعتبر الطبيب قاتلا. هذا نفسه يقال عن المرأة التي لا يقبل طفلُها إلا ثديَها هي بالذات، فحينئذ لا وجْه للتعصُّب والمشاحَّة والاضطراب، بل هي التي ترضعه قبلتْ ذلك أمْ لَم تقبل، أحبت ذلك الأمر أم لم تحبه، أي لا يجوز لها أن تضُرَّ بولدها لدرجة أن تَقْتُلَه، لا يجوز ذلك {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} المهم أن يتم هذا الارضاع، أن لا يبقى الطفل في حاجة إلى الرضاعة.

الإنفاق يتم على حسب قُدرة الزوج

ثم يوجه الله سبحانه وتعالى من هذا المنطلق أمراً أشمل وأعم وهو قوله {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} السعة، الوُجد والإمكانات التي تكون بيد الإنسان، هذا صاحب سعة أي صاحب مال ليس مضيّقًا عليه في رزقه، ويقابلهُ الرجل الآخر الذي قُدِرَ عليه، وضُيِّق عليه في رزقه، هذا الفقير الذي شحت الأموال بيده فهو قد قدر عليه وضيق عليه في رزقه، فهو ليس موسرا.

إذن فالناس منهم موسر ومعسر ومنهم غني وفقير فالغنِيُّ ينفق بحسب غناه، والفقير ينفق بحسب فقره وجِدَته، لا يُعْفَى أحدٌ من الانفاق، يُنْفق كل ذي سعة من سعته {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} الغني ينفق حسب طاقته والفقير كذلك حسب ما بيده، المهم أن الأمر واسع جدا.

هذا الحُكْمُ في كتاب الله عز وجل يؤَسس لحكمٍ عامٍ شاملٍ به تترابط الأسر وتتكافل، ويستطيع المجتمع أن يبلغ غايته من إيجاد النسل والنشء من أجل أن تستمر الحركة والعطاء ومن أجل أن تستمرّ العناية بالأطفال الذين هم جيل المستقبل، فهم يولدون ويخرجون إلى الوجود فلا يستطيعون تحصيل مكاسبهم ومعايشهم والزوجات اللائي هن في البيوت يقمن بجزء من المهمة لا يستطعن طلب الرزق فلاَبُدّ إذن من تكليف فرد من هذه الأمة، أو هذه الأسرة بأن يؤدي هذا الواجب الذي هو واجب الانفاق والحاكم المسلم، أو القاضي المسلم، أو الوصِيّ المسلم هم المؤهلُون لحَلِّ مشاكل الأسر، ومشاكل الأطفال ومشاكل التعاسر والتشاحِّ، حتى لا تضيع حقوق الطفل الذي لا قدرة له على الدفاع عن نفسه.

د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>