بـوابـة الـسـوء


ليس ثمة كالعلوم المسمّاة بـ (الإنسانية) أداة ذات قدرة عالية على التبديل والتفكيك وإعادة الصياغة في البنية الحضارية، لكونها تنبثق عن خلفيات تصورية شاملة وتنهض قائمة على منظومة من التصوّرات والمذاهب والفلسفات التي تغذّيها وتمنحها الملامح والخصائص، وتنحاز بها -بالتالي- صوب هذا المنظور أو ذاك. إنها ليست محايدة كالعلوم الصرفة أو التطبيقية، ومن ثم فإن تقّبلها في نسيج أية ثقافة مغايرة، سيقود تلك الثقافة، بدرجة أو بأخرى، ليس إلى مجرّد إضافة عناصر غريبة عن المناخ الذي تتنفّس فيه وتتشكل، وإنما إلى أن تفقد شيئاً فشيئاً مقوّماتها الأساسية، وتضحّي بتميّزها، وتمارس -هي الأخرى- انحيازاً قد يؤذن بتفككها وسقوطها.

كان هذا أحد مداخل الغزو الفكري عبر القرنين الأخيرين : أن نتقبّل عن الحضارة الغالبة معطياتها التي تتعامل مع الإنسان والتي قد تتقاطع منذ لحظات تشكّلها الأولى، ليس مع المفردات الإسلامية فحسب، وإنما مع أسسها وبداهاتها.

لقد تموضعت الحضارة الغربية شيئاً فشيئاً في دائرة صنمية. ترفض الله (جلّ في علاه) وتصنع على هواها شبكة من الطقوس تنسجها المصالح والأهواء حيناً، والظنون والأوهام حيناً آخر، وما يسمى بالأنشطة العلمية الإنسانية في معظم الأحيان. لقد أريد لنا -لسبب أو آخر- أن ندخل اللعبة نفسها، أن نفقد اليقين بالأساس الإيماني الموغل في بنياننا الثقافي، وأن ننسى الله.

إن هذا التقابل المحزن بين صنميات الثقافة الغربية وبين ثقافتنا التي يراد أن تنسلخ عن جوهرها الإيماني القائم على التوحيد، يذكرنا بعبارة قالها (كارودي) في (وعود الإسلام)(1) وهو يتحدث عن “الصنمية التمائمية التي تفرّخ وتتكاثر” في المجتمعات الغربية : “صنم النموّ، صنم التقدّم، صنم التقنية العلموي، صنم الفردانية وصنم الأمة.. بمحذوراتها جميعاً، ومحرّماتها، وبرموزها(المقدسة) وبطقوسها” وأنه ليس ثمة في مواجهة هذا كله، سوى أن نتشبّث أكثر فأكثر بـ “(لا إله إلا الله)، هذا الإثبات الأساسي للإيمان الإسلامي.. وإننا لنعرف بالتأكيد ما لهذا اليقين في العقيدة من قوة هدم وتحرير.. فالحوار هكذا مع الإسلام يمكن أن يساعدنا على ابتعاث خميرة عقيدتنا الحيّة فينا، تلك التي تستطيع نقل الجبال من مواضعها”(2).

نتذكر أيضاً عبارة أخرى في الكتاب نفسه تبيّن أننا نمارس لعبة خاسرة ونحن نتعامل مع ” إنسانيات ” الغير دونما أي قدر من التريّث أو النقد والتمحيص : “لمْ نشدّد على الوجوه التي لعب بها العلم الإسلامي باكتشافاته دور ( الرائد ) للعلم الغربي الحالي، وإنما على صفاته الخاصة في تبعيته وخضوعه للوسائل الإنسانية ذات الغايات الإلهية. في هذا المنظور، على القرن العشرين، وعما قليل، على القرن الواحد والعشرين، أن يتعلما كثيراً من الإسلام”(3).

فالذي يحدث منذ حوالي القرنين أننا لم نمارس تعليم الآخرين، أو نحاوله في الأقلّ، وإنما رحنا نأخذ منهم معارف إنسانية تقطعت وشائجها بالإنسان -في أقصى حالات توازنه وأدناها- وفقدت أية غاية إيمانية تتجاوز الحاجات القريبة، وتبعد بالحياة البشرية عن أن تكون مجرد حركة في الطول والعرض.

والمشكلة، في نهاية الأمر، وكما يقول كارودي نفسه “كونية” “ولا يمكن للجواب الاّ أن يكون على المستوى الكوني”(4).

فما لم تكن أنشطتنا المعرفية (الإنسانية) متلبّسة بمطالب العقيدة ومقاصد الشريعة التي انبثقت عنها، ما لم تكن هذه الأنشطة ذات طموحات كونية بمستوى المنظور العقدي للإسلام نفسه، فمعنى هذا أن هناك نقصاً.. ثغرة ما.. فراغاً.. قد يكون فرصة ملائمة لتقبّل (إنسانيات) الآخرين “الصنمية” فلا تزيدنا إلاّ ضياعاً، وتضاؤلاً، وتبعية، وانحساراً.

لقد دلّت التجربة نفسها كما يقول رجل القانون الدولي المعاصر (مارسيل بوازار) “على أن محاكاة العقائد المستوردة من أوساط ثقافية أجنبية، غير ملائمة. والحركات التي تستلهم الإسلام (بما فيها شبكة التعامل المعرفي) قادرة وحدها على أن تدمج عند الاقتضاء مختلف التيارات الباقية على الساحة لتقدم منها حلولاً مركبة تظهر الفضائل الأخلاقية من خلالها إحدى القوى الأساسية للحضارة”(5).

——

(1) ترجمة ذوقان قرقوط، الوطن العربي، القاهرة -بيروت- 1984 م.

(2) وعود الإسلام، ص 217- 218.

(3) نفسه، ص 111.

(4) نفسه، ص 67.

(5) إنسانية الإسلام، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الآداب، بيروت- 1980، ص 379 – 380.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>