تفسير سورة الفاتحة (10)


{صراط الذين أنعمت عليهم}

إن الصراط المستقيم بحكم كونه مستقيما يكفي ، لكن المسلم يذكر صراط الذين كانوا على اهتداء سابقا ويطلب ربه أن يمنحه صراطا مستقيما خاصا.

لا شك أن الإنسان مثلا إذا كان على علم بكرم أحد الكرماء فإنه ومن شدة إعجابه بذلك الكرم لا يقول لذلك الكريم: أكرمني فقط، بل إنه قد يقول أكرمني كما أكرمت فلانا. وفي هذا القول استحثاث على العطاء الكثير.

ولهذا فإن في ذكر الذين أنعم الله عليهم سابقا طلب استزادة في العطاء.

وهؤلاء الذين أعطوا وصفهم الله بأنهم قد أنعم الله عليهم.

والنعمة هي المنفعة الحسنة المبذولة في غير عوض. أو هي كما قيل حالة الرفاه التي يكون عليها الإنسان. وأصلها أنها حسية لكنها استعملت في معنويات وهي إذ ذاك حالة الرضا التي ينعم بها الإنسان من الله عزوجل.

وعلى العموم فإن الله عزوجل قد أنعم على العبد. ونعمه سبحانه إما أنها مباشرة أي أنه سبحانهتفرد بإيجادها كنعمة الخلق و الإحياء، وإما أنها غير مباشرة أي أنها تصل عن طريق البشر إما بذاته أو بغيره، لكن يكون مصدرها في الأصل هو الله سبحانه وتعالى.

فقد يجعل الله بشرا يجري على يديهم النعمة كالوالدين.وقد يجعل الله القربات و الأدعية مصدر النعمة.

فالنعم كلها مرجعها الحق سبحانه {وما بكم من نعمة فمن الله}.

ومن المعلوم أن الله عزوجل أنعم على جميع الناس مؤمنين و كفرة. ونحن إذ نطلب نعمته هنا فإن المراد بها الإنعام بنعمة الدين و الهداية لا مطلق النعمة، لأن أكبر نعمة لا تقيد هي نعمة الاهتداء.

ثم إن الذين نُعموا بالصحة أو المال أو غيرهما من الأمور العارضة لا يستحقون أن يتخذوا قدوة، ولذلك فإننا نطلب من الله عزوجل نعمة الهداية التي هي أكبر النعم المرجوة. كما أننا نربط هذه الهداية التي تعتبر أكبر نعمة بأولئك الذين أنعم الله عليهم سابقا.

وقد اختلف في هؤلاء.

فقيل هم أتباع الأنبياء..

وقيل هم الأنبياء..

وقيل هم الأنبياء السابقون…

وقيل هم المؤمنون من هذه الأمة..

ومع هذا الاختلاف فإن الأمر قد يحصر في جهتين:

الأولى متعلقة بالمؤمنين: وتبقى غير سليمة إذ كيف يعقل أن يكون الطلب هنا متعلقا بالمؤمنين والسورة من أوائل السور من حيث النزول ؟ فلاشك أن الذين أنعم الله عليهم سابقا و المرغوب في طلب نعمتهم هم غير المؤمنين بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثانية: متعلقة بالأنبياء: وربط الآية بهم أمر سليم علما بأنه سبحانه وتعالى جعل قدوتنا الأنبياء تكريما للأمة الإسلامية . وهاهنا سؤالان:

- لماذا نطلب صراط الذين أنعم الله عليهم مع أن الصراط المستقيم معلوم ؟

إن لهذا الأمر علاقة بالتربية الإسلامية السليمة. ذلك أن التربية التي لا تُبنى على قدوة لا يمكن أن تكون تربية سليمة. إنه لابد من البحث عن الأمر المرغوب فيه في التربية و القدوة التي نريدالوصول إليها. فلو أردنا تربية الإنسان على العفاف مثلا فإن المتعلم لابد من تلقينه قصة يوسف مثلا كقدوة حسنة، وإن كان الأمر يتعلق بالالتزام والثبات لابد من تلقين وذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الأمر يتعلق بالتضحية فلابد من ذكر قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. وهكذا.

ومن أجل هذا كان القصص القرآني كثيرا في كتاب الله عزوجل. والاعتناء بهذا القصص في مجال التربية أمر ضروري لأن كل خبر في القصص القرآني شاهد على حكم شرعي.

فصراط الذين أنعمت عليهم أحالتنا إذن على النموذج الذي يجب الإقتداء به.والمسلمون أولى الناس بالأنبياء، وهم يضعونهم جميعا موضع النعمة.

- والسؤال الثاني: إذا كنا نسأل الله في هذا المقام هذا السؤال فلا شك أن هؤلاء الأنبياء بشرائحهم السابقة كانوا على دين وعلى شرع، لكن شريعتنا هي الأكمل، فكيف يمكن أن نطلب النعمة التي نُعِّمَ بها أولئك؟..

والجواب: إننا إذ نسأل الله عزوجل هذه الهداية فإننا نقصد بذلك معنى الدين الشامل. بمعنى: إن الدين كان دائما هو الخضوع لله عزوجل. فالشرائع تختلف لكن جوهر الدين واحد. إن ما ألزمنا به نحن الآن ليس هو ما ألزم به غيرنا سابقا. وما نعبد الله به نحن قد يختلف في أمور فرعية لكن الأصل واحد.

د.مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>