مقدمة :
جاء الأمر في القرآن العظيم والسنة النبوية بالمعاشرة الحسنة للرجال، فقال تعالى : {وعَاشِرُوهُنَّ بالمَعْرُوفِ فإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويجْعَلَ اللهُ فِيه خَيْراً كَثِيرا}(النساء : 18). وقال : >اسْتَوْصُوا بالنِّساء خيراً<، وقال : >خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهْلِهِ، وأنَا خَيْرُكُمْ لَأَهْلِي< إلى غير ذلك من الأوامر والوصايا والتوجيهات التي ورَدت على شَكْل أوامر ربّانية توجِبُ على الرجل حقوقاً للمرأة عليه أن يؤديها لها طاعة لله تعالى أولا، ونُشداناً لتكوين الأسرة الصالحة ثانيا التي لا تنقطع بالموت {والذِينَ آمَنُوا واتّبَعَتْهُم ذُرِّيَّتُهُم بإيمَانٍ ألْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيّاتِهِم وما أَلَتْنَاهُمْ من عَمَلِهِم من شيْء}(الطور).
فقد جاء الخطاب للرجال لأن الرّجل هو :
1) الذي يتخذ الخطوةالأولى في البحث عن نصفه الذي يكمله، وهو الذي يبدأ في الاختيار، ولا يختار الاقتران إلا وهو يعلم أنه المكلف بتأسيس شركة يكون هو رأْسها المطوق بتبعاتٍ ومسؤوليات سيحاسبُه الله عليها في الآخرة قبل الحساب الدنيوي، فهو المخاطب أولاً قبل المرأة >كُّلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكم مسْؤُول عن رَعِيَتِه، فالرّجُلُ رَاعٍ ومَسْؤُول عن رَعِيَتِه، والمرأة رَاعِيةٌ ومَسْؤولةٌ عن رعِيَتِها<.
2) هو الذي جعل الشرعُ العِصمة بيده، أي بما أنه هو البادئ بتأسيس الشركة الأسرية، وإبرام عقودها ومواثيقها، وتحمل مسؤوليتها فهو الذي له الحق في فضِّها وفسخها عندما تعترض المسيرة عوائق تمنع من الاستمرار.
3) هو الذي ألقى الشرع على كاهله واجبَ التسيير، أو واجب الإشراف على التسيير، لأن الذي يقوم بجميع الأعباء والتكاليف هو الذي من حقه أن يشرف على القيادة.
نظراً لكل هذه الاعتبارات كان الخطاب بإحسان العشرة للرجال في كل الأحوال حتى لو حصل شيء من التنافر والتباغض والكره لعوارض ليست معطِّلة للحكمة من الزواج، ولهذا أمر الله تعالى بالعشرة الحسنة ولو في حالة الكره، ونفس التوجيه جاء من رسول الله حيث قال : >لا يَفْرِكْ مُومنٌ مُومِنةً، إن سَخِطَ مِنْها خُلُقًا رضِي منْها آخر<(رواه مسلم) والفَرَكُ : البُغْض الكُلّي الذي تُنسى فيه كل المحاسن، روى مكحول عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : >إنّ الرّجُل ليَسْتخِير الله تعالى فيُخارَ لهُ، فيَسْخَطُ على ربِّه عز وجل، فلا يَلْبَثُ أن ينْظُر في العَاقِبة، فإذَا هُو قد خير لَهُ<(1) وسُخطه على ربه هو أنه لا يُحس بالرضا عند حصول الكره، فيظن أنه قد أساء الاختيار رغم ما ظهر له من بشريات الاستخارة، لكنه إذا صبر وفوض الأمر لله تعالى سرعان ما يحمد العاقبة.
هذا بالنسبة للرجل، أما بالنسبة للمرأة فقد جاء الأمر لها بالعشرة الحسنةعلى شكل الوصية بالطاعة المطلقة للزوج -في غير معصية الله تعالى طبعا- {فَإِنْ أطَعْنَكُم فلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِن سَبِيلاً}(النساء)، فذلك حق الزوج عليها، وتلك واجباتها إزاءه، قال في حجة الوداع : >أمَّا بَعْدُ أَيُّها النّاس، فإِنّ لكُمْ على نِسَائكُمْ حَقّا، ولهُنّ عليكم حَقّاً، لَكُمْ عَلَيْهِنّ ألاَّ يُوطِئْن فرْشَكُم أحداً تَكْرَهُونَهُ، وعلَيْهِن ألاّ يَاتِين بفاحِشةٍ مبيِّنة فإن فعلْن فإن الله قد أذِن لكُم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهُن ضرباً غير مبرِّح، فإن انتهين فلهُنّ رزقُهُن وكسوتُهن بالمعروف، واستَوْصُوا بالنساء خيراً، فإنّهُن عندكم عَوَانٍ(2) لا يمْلِكْن لأنْفسِهِنّ شَيْئاً، وإنكم إنما أخذتُمُوهُنُّ بأَمَانَة الله، واستحْلَلْتُم فرُوجَهُن بكلمة الله، فاعقِلُوا أيها الناس قولِي، فَإِنِّي قد بلّغْتُ<(3).
معنى العاشرة الحسنة
المعاشرة : المخالطة،وكلاهما فِعْلٌ لا يتم إلا بيْن فرْدَيْن اثنين فأكثر، أي لا يمكن أن يقال : أعاشِرُ نفسي، أو أخالط نفسي، بل لا يمكن أن تكون المعاشرة أو المخالطة إلا من شخص لآخر، وشروط المعاشرة والمخالطة الحسنة أن تكون قائمة على العدل وعدم تجاوز الحدود {وإنَّ كَثِيراً مِن الخُلطَاء لَيَبْغِي بعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِ إلاّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحَاتِ وقَلِيلٌ ما هُمْ}(سورة ص).
والخطاب في قول الله تعالى {وعَاشِرُوهُنّ} وإن كان للرجال فهو يصدُق على النساء أيضاً على شكل حقوق عليهن وواجبات، كما أوجَبَ لهن الشرع على الزوج حقوقًا وواجبات {ولَهُنّ مِثْلُ الذِي عَلَيْهِنّ بالمَعْرُوفِ وللِرِّجَالِ عَلَيْهِنّ دَرَجَة}(البقرة).
واجبات المعاشرة الحسنة بالنسبة للرجل :
إن الواجبات كثيرة يمكن إجمالها فيما يلي :
> أ- واجب الرجولة : أي أن يكون الزوج رجلاً بالمعنى الكامل للرجولة، لأن الرجولة ليست هي الذكورة، وإنما الرجولة هي رجولة الأخلاق والصدق والاستقامة، وسعة الصّدر، وسمُوّ الفكر، ونُبل العاطفة، وعُلُوّ الهِمّة، وحُسْن التدبير والتوجيه، حتى تحس المرأة أنها تعاشر رجلا مهيبا محترماً يطاع محبة ورغبة ورضاً وخضُوعاً باطنيا مسُوقاً بالشوق والتلهف العاشق، فإذا ضعُفت معاني الرجولة أو انعدمت في نفسية الذكر فقد أساء إلى نفسه وإلى زوجه وأسرته ومجتمعه خصوصاً إذا تميّع أو تخنَّث أو تسفَّل همة وفكراً، قال : >لَعَن اللّه المخنَّثِين من الرجال والمترجّلات من النّساء<(رواه البخاري).
> ب- واجب الإنفاق : قال تعالى : {الرِّجَالُ قَوّامُون على النِّسَاءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بعْضهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أنْفَقُوا من أمْوالِهِم}(النساء) والإنفاق يشمل كما قال الرسول : رزقهن وكسوتهن بالمعروف، كما يشمل الإنفاق على علاجهن عند المرض والتطبيب، ويشمل كذلك إخدامَهن إذا كن من ذوات الإخدام نظراً لوضعهن الاجتماعي أو الثقافي أو الأسري…
وليس هناك طعنٌ في الرجولة أقبح من أن يتزوج الرجل المرأة لتنفق عليه ويكون هو عالة عليها فتلك منقصة ليس فوقها منقصة إذا كان الباعث على الزواج هو الطمع في مالِها وليس ما تتمتع به من دين وكمال وصلاح.
> جـ- واجب القوامة والحماية والتربية والتوجيه : قال تعالى : {يا أيُّها الذِين آمَنُوا قُوا أنْفُسَكُمْ وأهْلِيكُم نَاراً} وقال : {وامُرْ أهْلَكَ بالصّلاَةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها}.
> د- واجب التمتيع الفطري للمرأة : وهو حَقُّ المرأة في الفراش، وتلبية رغبتها في الوطء، فإن ذلك مُتعة وعبادة وقُربة إلى الله تعالى، جاء في الحديث الصحيح : >وفي بُضْعِ أحَدِكُمْ -أي فرجه- صَدَقَةً< قالوا : يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال : >أَلَىْسَ إذَا وضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ علَيْه وِزْرٌ؟! كذَلِك إذا وضَعَها فِي حَلاَل كانَ لَهُ أجْرٌ، أتَحْتَسِبُون الشّرّ ولا تحْتَسِبُون الخَيْر<(رواه مسلم).
بل أكثر من ذلك غضب غضباً شديداً عندما سمع بالرهط الثلاثة الذين أرادوا أن يتبتَّلُوا، وفكّروا في الاختصاء لقطع الشهوة الجنسية نهائيا، فقال : >أنا أعْلَمُكُم باللّه، وأخشَاكُم لَهُ، ولكنِّي أقُومُ وأنَامُ، وأصُومُ وأفْطِرُ، وأتزَوَّجُ النّساء، فمَنْ رَغِبَ عن سُنّتِي فلَيْسَ مِنِّي<(متفق عليه).
واعتزم عثمان بن مظعون ] الزهد في النساء واعتزال زوجه الشابة الجميلة، والتي كانت عائشة رضي الله عنها تراها قبل تزهُّد زوجها متخضبة متزينة، ثم بدأت تراها متبذلة شعثاء فسألتها، فقالت لها : إن عثمان بن مظعون زهِد في زينة الحياة الدنيا، فأخبرت عائشة الرسول بذلك، فأرسل إليه، وقال له : ألسْت لك قُدوة؟! فإني أتزوج النساء، فرجع إلى زوجه، فصارت تأتي عائشة مرة أخرى وقد تخضبتوتزينت وامتشطت.
وسلمان الفارسي ] كان أخاً لأبي الدرداء ]، فكان يأتي إليه ويدخل إلى داره ولو في غيابه، فلاحظ أن زوجة أبي الدرداء قد أهملت نفسها وتبذّلت، فسألها عن هذا الإهمال لنفسها، فأخبرته أن أخاه أبا الدرداء لا أرَبَ له في الدنيا.
فجاء أبو الدرداء -وكان صائما صوم النافلة- فعزم عليه أن يُفطر، فأفطر، وفي الليل قال أبو الدرداء لأخيه سلمان : نَمْ، وأراد أن يقوم ليتهجد، فمنعه سلمان، وقال له، قم الآن ونَمْ، وعندما جاء الهزيع الأخير من الليل أيقظه فصليا وذهبا للصلاة مع رسول الله ، فاشتكى أبو الدرداء لرسول الله ، وحكى له ما فعله أخوه سلمان معه، فقال : >صَدَق سلمان، إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعْط كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقّه< فالاعتراف بفطريّة الدافع الجنسي للمرأة وأصالته، وإدانة الاتجاهات المتطرفة التي تميل إلى مصادرته، أو اعتباره قَذَراًوتلوثا وتنجّساً هو المنهج الإسلامي الأصيل الذي يُرسِّخ أسسَ الاستقرار الأسري، ويعمل على مَدِّ جذور المحبة والمودة والتآلف بين قلبين اختارا أن يعيشا متساكنَيْن متلابسَيْن.
ولا يتأتى للمرأة أن تأخذ هذا الحق كاملا مُسْتَوفًى إلا إذا :
< تجمَّل الرجل للمرأة كما يحب أن تتجمل له، وتطيّب لها كما يحبُّ أن تتطيب له، فلا وسخ في الفم والأسنان، ولا رائحة كريهة تنبعث من الآباط والبراجم والثياب الوسخة. كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : >إنّي أتزيّن لامرأتي كما تتزين لي< فإهمالُ حق المرأة في التمتع بزوجها جمالا وحُسْن منظر، وحُسْن مُداعبة، وملاعبة ومضاحكة ومعاشرة يُخَرِّب الأسر، ويُنفِّرُ الزوجة، ويمكن أن يقودها إلى العصيان، والنشوز، ومطالبة الفراق.
يُروى أن امرأة ذهبت إلى عمر بن الخطاب ] تطلب الفراق من زوجها، فرأى عمر الزوج وإذا هو أشعث أغبر خلق الثياب مستطيل الشعر فأدركبثاقب نظره أن النفرة من هذه الحال الزّريّة، فأجّلها، وأرسلَهُ إلى المغتسل، فاغتسل، وألبسه ثيابا حسنة، وأزال شعثه، ثم ناداها، فسألها : أمُصِرَّةٌ على الفراق؟! فلما رأت زوجها على حاله الجديدة، عدلت عن طلب الطلاق(4).
< وإلا إذا عمل على إطفاء شهوتها بإيصالها إلى ما يشتهي هو الوصول إليه، وهذا يتطلب ثقافة خاصة يتعلمها الزوجان من خلال الخبرة المكتسبة في مخدع الزوجية بدون حرج ولا حياء ولا خجل، فالحياءُ هو الحياء من معصية الله تعالى، قال الغزالي : >ثمّ إذا قضَى وطَرَهُ -الرجل- فلْيَتَمهَّلْ على أهْلِه حتَى تقْضِي هِي أيْضاً نهْمَتَها، فإنّ إنْزَالَهَا رُبَّمَا يتَأخّرُ، فلاَ يُؤْذِيها بالقُعُود عنها وعدَم مُراعاةِ شُعورها وحاجَاتِها، فالتّوافُقُ في الإنْزاَل ألَذُّ عِندها، ولا يَشْتَغِل الرجلُ بنفْسِه عنها، فإنّها رُبّما تسْتحيي<(5).
وقال ابن القيم في زاد المعاد : >أما الجماع والباءة فكان هديه فيه أكمل هدي، يحفظ به الهمّة، ويُتِمُّ به اللذة وسرور النفس، ويُحَصِّل به مقاصده التي وُضع لأجلها<.
فإن الجماع في الأصل وُضع لثلاثة أمور :
أحدها : حفظ النسل ودوام النوع.
ثانيها : إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
ثالثها : قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة.
أما منافع الجماع فهي :
غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه، في دنياه وأخراه، وينفع المرأة، ولذلك كان يقول : >حُبِّبَ إليَّ من دُنْيَاكُم النّساءُ والطِّيب<(6).
فالبناء الأسري يقوم على المودة والرحمة والسكن العاطفي والنفسي، كما أن العفة مقصد شرعي أساسي من مقاصد الزواج، لا تستقيم الحياة الزوجية دون تحقيق هذه العفة الناشئة عن التلابُس بين الزوجين {هُنّ لِبَاسٌ لكُمْ وأنْتُمْ لِبَاسٌ لهُنّ<(البقرة).
وإذا كانت المجتمعات الإسلامية توارثت السكوت عن الكلام في منطقة الجنس، واعتبرته من المحرمات، حتى غزت الثقافة الغربية بشراسة شعوبنا، فاختلط الحابل بالنابل، أي اختلط الحلال بالحرام، والمسموح به شرعا بالممنوع شرعا، فانتقلت الشعوب من الصمت المطبق إلى النهم الفاضح، ومن الحياء الكاذب إلى السّعار الجنسي المحموم الذي أهان الرجل، وأذل المرأة، وسهّل الخيانة، وأفقد الأسر الثقة والمودة والاستقرار.
———–
1- زهرة التفاسير لمحمد أبي زهرة 1623/3.
2- عوانٍ : ج عانية، وهي الأسيرة المحبوسة، والمرأة محبوسة في بيت زوجها حبساً معنوياً، لكونها لا ينبغي أن تنصرف وتخرج إلا بإذنه.
3- البخاري كتاب المغازي والبداية والنهاية لابن كثير 196/5.
4- زهرة التفاسير 1621/3.
5- الاحياء بتصرف، والأسرار الخفية للمعاشرة الزوجية 11.
6- رواه أحمد، انظر الأسرار الخفية 12.
ذ.المفضل فلواتي