نساء في شموخ الرواسي *
الحياة كالأرض، ليست منبسطة تماما، فتمة جبال وهضاب وسهول وحفر… ولكل فارس كبوة.. وفوارسنا نساء، انطلقن من كبواتهن مؤمنات صابرات محتسبات.. قاسمهن المشترك : {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}(الطلاق).
قصصهن الواقعية عبرة، ومبعث أمل وتفاؤل ونجاح.. ألم يعدنا الذي لا يخلف الميعاد أن يجعل للمتقين مخرجاً، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون؟!
1- ربح البيع والله!
ما أطيب زميلتي نادية! لم أكن أخالها بهذه الطيبوبة والتواضع، رغم مظهرها الجذاب الذي يشي عن مدى غناها..
ها هي ذي تتودد إلي، تدعوني إلى كأس شاي في مقصف الكلية.. تنصت إلي أكثر مما تتحدث… دعتني ثانية إلى غرفتها في الحي الجامعي، وكم استغربت حين علمت أنها تملك شقة فاخرة، ولكنها تفضل السكن في الحي الجامعي، لطبعها الاجتماعي! والأغرب من ذلك أنها تستغني عن سيارتها الفارهة، لتتنقل بواسطة الحافلات وسيارات الأجرة!
يا للتواضع! أحببت نادية المتواضعة، الكريمة إلى حد السخاء!
وقفت مليا أمام المرآة.. نادية على حق… كم كنت غبية! لقد أيقظت مارداً بداخلي.. لم أكن أعلم أني جميلة…
الحياة قصيرة، والشباب أقصر، والجمال يذبل… إنك ملكة جمال بلا ملْك، فَلِمَ لا تستغلي هذا الجمال، ستلعبين بالمال، ستصبح الدنيا ملك يديك… ستنهين دراستك، وتنضافين إلى طابور المعطلين… ففيم ستنفعك الشهادة؟! نعم حصولك عليها يرفع من مكانتك الاجتماعية، في زمن صارت فيه الشواهد مفخرة ومظهرا! قالت نادية ناصحة.
سادت لحظة صمت… خمنت في كلامها.. غمغمت :
- أخاف… أخاف الفضيحة وأسرتي، والناس..
فقهقهت :
- ومن سيراك؟ وما دخل الناس فيك؟! أما أسرتك، فأغرقيها في النعيم… سيجعلك الغنى الآمرة الناهية!
ليلتها، أرقني كلامها… باتت أحلام اليقظة تدغدغني، سأودع الفقر، سأقتني سكنا فاخراً، وسيارة فارهة… سأتمرغ في النعيم، بل سأغرق فيه!
حددت لي نادية يوم السبت، سأرافقها باكراً إلى صالون تجميل، ثم نعرج على أفخر محل للملابس الجاهزة.. ما أكرم نادية، ستؤدي عني كل المصاريف!
الثمن مغر، لم أحلم به طوال حياتي.. أو كما قالت نادية :
- أي رجل يستطيع أن يصدقك صداقا مثل هذا؟! سيتزوجك بثمن بخس، لتكوني خادمة له، فإذا ماملّك ألقى بك إلى الشارع!
تقوقعت في غرفتي أنتظر السبت.. أعد الدقائق والساعات إلى أن استبد بي الملل.. أصرت فاطمة، زميلتي في الغرفة، أن أصحبها ليلة الخميس إلى حفل.. هذه فرصة لتزجية الوقت الممل.. ارتديت ملابسي بسرعة، ولبيت دعوتها دون أن أسألها أي سؤال!
حفل غير عاد… تشرئب أعناق النساء حولها وقد أصَخْنَ السمع.. الحياة قصيرة، الشباب أقصر، الجمال يذبل… ذهلت، الكلام نفسه رددته علي نادية.. غير أن المحاضرة أضافت.. هل تريدين عزيزتي الحياة الأبدية، حيث الشباب الأبدي والجمال الأبدي، يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟!
بهرتني كلماتها، أنا المعنية بالأمر… كلماتها سحر أخاذ يلامس شغاف قلبي.. ووجدتني أبكي بحرارة.. قمنا لصلاة المغرب، استحييت أن أقول لهن أني لا أصلي… وقفت في الصف، استحييت من ربي… رتلت فتاة أمّتنا سورة الزلزلة… أي زلزال يهز كياني هزاً عنيفاً؟! ووجدتني أبكي مرة أخرى… أنا التي كنت قبل قليل مغرورة بجمالي، سأوارى قبراً، ستأكل جسدي الديدان، سأقف بين يدي ربي.. هل تريدين عزيزتي الحياة الأبدية حيث الشباب الأبدي والجمال الأبدي؟! وأومأت برأسي : أي نعم والله!
أي نسمات تحرك أغصان روحي الذابلة هذه الليلة؟! قيام وتهجد… ها أنا ذي أتخلص من طينيتي الآسنة لأسمو عاليا في ملكوت الله!
اصطحبت فاطمة صبيحة الجمعة إلى المسجد، حيث غمرتني طمأنينة عميقة… خطب الإمام.. ابتلى الله سيدنا يوسف عليه السلام بالجمال.. فضل السجن على أن يغضب الله عز وجل…
وبكيت مرة أخرى، أنا المقصودة، وكأن ربي ساق إلي كل هؤلاء لأصحو من غفوتي.. جاءتني نادية حسب الموعد المحدد.. قلت لها إني قد ولدت من جديد… راودتني، ضاعفت الثمن أضعافا مضاعفة، زينت لي طريقها.. وحين يئست من إقناعي، تحولت إلى وحش ضار…. صرخت في هستيريا :
- كيف تخيبين أملي في صفقة خيالية لم أحلم بها؟!
ياه… نادية السخية نخاسة… يا لغباوتي!
صفقت الباب في وجهي، وصرخت ثانية :
- أنت الخاسرة.. أنت الخاسرة!
فقلت في ثقة :
- بل أنا الرابحة.. ربح البيع والله.. صفقتي مع الله عز وجل، وقد كرّمني وأكرمني، ولن يفقرني أبداً.. إني إنسانة، ولست بضاعة للاتجار، أحمل مشعل أسمى رسالة، من أجل حياة أبدية وشباب أبدي، وجمال أبدي!!
——
(*)- الأسماء كلها مستعارة.
ذة. نبيلة عزوزي