اسمعوا قبل أن لا تسمعوا


قال سبحانه وتعالى : {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} سبحان الله!! يا لحلاوة التعبير القرآني ويا لحكمة التعبير القرآني!! لمن كان له قلب، وهل هناك من تطرِفُ له عين أو ينبض له عرق ليس له قلب؟! ليست تلك المضخة التي تعمل ليل نهار هي المقصودة في هذه الآية وليس جل هذه القلوب التي تعمل بلا توقف على وجه هذه البسيطة من نوع هذا القلب المقصود في هذه الآية.

إنها قلوب ظاهرها الحياة وباطنها من قبلها الموت والخراب إنها قلوب فارغة من الحياة التي يريدها الله لعباده في هذه الأرض. القلب الذي يريده الله لعباده هو القلب الذي يَفْقَهُ {لهُم قلوبٌ لا يفْقَهُون بها}(الأعراف) وهو القلب الذي يعقل : {أفَلمْ يسِيرُوا في الأرْضِ فتكُون لهم قُلُوبٌ يعْقِلُون بها}(الحج : 43) وهو القلب الذي لا يعمى عن رؤية الحق {فإنّها لا تَعْمى الأبْصار ولكِنْ تعمى القلُوب التي في الصُّدور}(الحج) وهو القلب الذي تتنزل عليه السكينة {هُوَ الذي أنزل السكينة في قُلُوب المومنين لِيَزْدادُوا إيماناً مع إيمَانِهِم}(الفتح : 3) وهو القلب الذي يطمئن إلى ذكر الله، ويخشع لعظمته {ألا بذِكْر الله تطمئن القلُوب} وهو القلب الذي لا يزيغ عن الحق {فلما زاغوا أزاغ الله قلُوبهم}. هذا القلب بهذه المواصفات هو القلب الموجود حقا، أما القلب الميكانيكي فوجوده كعدمه. وهنا تحضرني طرفة لبعض الآباء الذين يعانون من جحود أبنائهم وهو يقول لأحد أصدقائه متذمراً : إن ابني ليس لديه قلب وأنا أجزم بذلك وأؤكد، إن لم تصدقني فها هي ذي النقود فاذهب به إلى الطبيب وسترى صحة ما أقول. هذه القلوب هي سر النهضة وسر التحول من الموت إلى الحياة : {أومن كان ميّتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}.

هذا القلب هو الذي جاء به سيدنا ابراهيم عليه السلام إلى ربه : {وإن من شيعتِه لإبراهيم إذ جاء ربه بقَلْب سليم} سليم من كل مرض، سليم من كل تعلق بغير الله تعالى {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} لا يتعلق إلا بالله ولايستنير إلا بنور الله ولايدعو إلا الله.

هذا القلب هو الذي جعل امرأة فرعون تطمع في بيت عند رب العزة وتزهد في ما عند فرعون وإن كانت قصوراً تجري الأنهار من تحتها {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} “بيت” جاء نكرة كيف ما كان ذلك البيت! المهم أنه قريب من رب العزة، وقد قال المفسرون في ذلك إنها اختارت الجار قبل الدار ونعم ما اختارت، هذا القلب لا يجد أنسه وراحته وطمأنينته إلا في كنف الرحمان وفي رضى الرحمان.

هذا القلب هو الذي تنفع فيه الذكرى، وتؤثر فيه الموعظة، فتربته خصبة نقية تتشرب كل نقي وتلفظ كل قذارة.

ولكن!! كيف لمن لم يكن له قلب بهذه الصفات، كيف له أن ينتفع بالذكرى؟ الآية تسرد الحل الثاني : {أو ألقَى السّمع وهو شهيد} فالذي له قلب -وأنعِم به من قلب- يسمع وهو شهيد على ما يسمع، وهو لا يحتاج إلى كبير جهد، لأنه قد سما إلى مرتبة أعلى، أصبحت معه الأمور تلقائية سهلة سلسة، فهو يسمع ولا يحتاج إلى أن يُلقي السمع، فحاسته قد صُقِلت وهُذِّبت، وهي تجلب كلام الله جلبا، وينساب في قنواته انسيابا، فيذيقها عذوبة ما بعدها عذوبة!!

هذا بالنسبة للذي له قلب أما الآخر الذي هو دون هذا المستوى فيحتاج إلى بذل جهد أكبر، وإلى الاجتهاد في طلب رضا الرحمان فهو في حاجة إلى أن يستعمل هذا الجهاز العظيم الذي ركبه الله في آذاننا وهو آلة السمع {إنما يستجيب الذين يسمعون} والتعبير هنا دقيق والمعنى أدق : ألقي السمع، والقاء السمع أقوى من مجرد السماع، وهو يأتي بنتائج أحسن فيتأتى معه التدبر لمعاني الآيات من طولترويض، وجهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، ومن صدق العزم نال الدرجات وسيجازيه الله في هذه الدنيا بامتلاك هذا القلب الحقيقي {للذين أحسنوا الحُسنى وزيادة} {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}.

والسماع مورد مهم وأداة عظيمة من أدوات تلقي العلم، ولا يمكن أن يتعلم من لا يسمع بهذه الكيفية {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} فالسمع من النوافذ أو القنوات التي توصل العلم إلى القلب، فهو بمثابة مجرى مائي ينسكب فيه الماء ليستقر في مكان من الأرض، فإذا لم تتحقق الذكرى ويثمر القلبُ شجرة الإيمان وتسدل فروعها على الجوارح، فهذا يعني أن هناك خللا، والخلل قد يكون في المجرى وهو آلة السماع وقد يكون في المكان الذي يستقبل الماء، وهو القلب فيحتاج إلى استئصال بعض الشوائب التي تحول دون الإنبات والاثمار.

قال تعالى : {ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها، قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} فالله الذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي القلوب بعد قسوتها. فالإيمان إذا لم يتجدد في القلوب، سوف يركد ويخفت صوته، تماما كالهواء الراكد ليس كالهواء المتجدد والماء الراكد ليس كالماء الجاري.

فيا أيها الذين لا يسمعون اسمعوا قبل أن لا تسمعوا، وجددوا إيمانكم قبل أن تقسو فتموت : {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} وأما الذين كانوا يسمعون في الدنيا فسينجيهم الله من سماع ولو حسيس جهنم {لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون}.

فاطمة الفتوحي

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>