4- اليأس والأمل
لقد شعت رسائل النور أملاً في ظلمات اليأس. فلا غرو أن يعالج النورسي اليأس كلما دب في نفس الإنسان كالشلل بالأمل الشافي. وحالات اليأس كثيرة في أطوار الإنسانية يأس من رحمة الله، أو من ارتقاء المسلمين بعد انتكاسهم، أو من مرض، أو مصيبة، وغيرها. إن موئل الأمل هو التفاؤل. ومبعثه استشعار أن الملك لله المهيمن القيوم. “فلا بد أن تقول: له الملك وله الحمد ولا حول ولا قوة إلا بالله(1)، ثم أن “الإسلام كالشمس، لا ينطفئ سناها بالنفخ، وكالنهار لا يصير ليلاً بإغماض الجفن. ومن يغمض عينيه، يجعل الظلام من حظ نفسه وحده!”(2) فيا “أيها المسلم: حذار أن تخدع لا تطأطئ الرأس، ولا تذل! فإن الالماس النادر وإن علاه الصدأ هو خير أبداً من زجاج لامع! ضعف الإسلام الظاهري ناشئ منإنسياق المدنية الحاضرة في طريق دين آخر. وقد أذنت الساعة لتبديل هذه المدنية لصورتها وكل آت قريب، وأن مع العسر يسراً”(3).
“أنظر إلى الزمان. إنه لا يمضي على خط مستقيم حتى لا يباعد بين المبدأ والمنتهى بل يدور في دائرة كما تدور الأرض! فتارة نرى الصيف والربيع في حال الارتقاء، وتارة نرى الشتاء والخريف في حال الهبوط. وكما الربيع يعقب الشتاء، والنهار يعقب الليل، كذلك ربيع البشرية إن شاء الله. فأنتظروا شروق شمس حقيقة الإسلام من الرحمة الإلهية.”(4) والانقلابات السياسية وتحولاتها، والهوان السياسي، شأنه شأن طنين البعوض ودوي النحل الخافت في سيمفونية الكون. “فلا تأسوا ولا تحزنوا إن سكن طنين البعوض وهدأ دوي النحل. ولا تخمدوا لهيب أشواقكم أبداً. فإن الموسيقى الإلهية العظيمة التي يرقص الكون على نغماته في فرح ونشوة، لا يفتأ يشجي بالحانه أسرار الحقائق. فلا يسكن ولا يهدأ أبداً. وتبقى قوية عالية. إن ملك الملوك وسلطان الأزل والأبد، ينادي بقرآنه الكريم الذي هو النعم الإلهية، ويملأ الكون كله بشذو آياته الصداحة في قبة السماء، والمنعطفة بنغماتها المقدسة السامية أمواجاً متلاطمة نحو أصداف رؤوس العلماء، ومغارات قلوب الأولياء، وكهوف أفواه الخطباء، ثم المنعكسة أصداؤها على ألسنتهم سيالة وسيارة، متنوعة ألوانا وأجناسا، تهز الدنيا بشديد أمواجها، وتتجسم كتباً للإسلام مطبوعة، كأنها أوتار في طنبور أو قانون، كل وتر يعلن عن نوع من تلك الأصداء السماوية الروحانية فمن لم يسمع الصدى الذي ملأ العالم ضياءً، أو لم ينصت إليه بإذن قلبه، فهو عن سماع طنين الأمراء ورجال الدولة اجمّ. فإن من يتوجس خيفة على الدين من انقلاب سياسي، ليس له نصيب من الدين إلا الجهل به”(5) ذلك لأن الانقلاب السياسي فعله الأكبر في الظاهر، والدين فطرة في الضمائر.
“أخاطب الأجيال القابلة فيالزمن الآتي: ارفعوا هاماتكم طوبى لكم إذ تأتون في زمن الربيع الزاهر كالجنة..”(6) وأنتم “أيتها الجنائز الدابة على رجلين أثنتين، أيها الأموات الأحياء! أيها التعساء، تاركو روح كلا الحياتين: الإسلام! تفرقوا.. لا تقفوا حجر عثرة أمام الجيل القابل، القبور تنتظركم! فتنحوا عن الطريق للجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الإسلامية عالية، ويهزها خفاقة تتماوج على صفحات الكون”
إن حياة الأستاذ النورسي كلها جهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق والدين. جهاد بالنفس والقلم واللسان، في جرأة وشجاعة وصمود. وما أصابه وهن ولا ضعف في أي مرحلة من مراحل الجهاد. وهو يرى أن الله تعالى أبقى حياته أمانة بعد أن كادت تطير مرات ومرات في “القفص إلى الشجرة”، ليفديها قربانا للحياة في سائر الأيام. فهو لا يبالي بالتهديد لأن سلب الحياة ليس بشئ عنده. ولأعداء دعوته إلا أن يهددوا حياته الأخروية بالافتراء عليه واتهامه في دينه. وحتى هذا لن يثنيه عن مسيرة. “فليدعوا على روحي -إن شاؤوا- أن تحترق في نار جهنم، فهي الآن بنار الأسى محترقة ولست أبالي بدعواتهم علي، لأن راحة الوجدان من نار الأسى يتضمن فردوساً من المقاصد”(7).
وينادي بأعلى صوته، أنه وضع حياته الدنيوية، وحياته الأخروية في راحته، ثم تقدم إلى حربين في ميدانين لمبارزة الأعداء، ويهدد أن “لا يقربن إنسان يملك حياة واحدة إلى ميداني”(8) وإنني إذ أقف على مشارف عالم البرزخ الذي تسمونه السجن، منتظراً في محطة (الاعدام)، القطار الذي ينقلني إلى عالم الآخرة، اشجب وأنكر ما يجري في المجتمع البشري من ظلم وغدرٍ. فلا أخاطبكم أنتم دون غيركم، بل البشرية في هذا العصر. لقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر (يوم تبلى السرائر)، فلا يمدن النظر إليها أجنبيٌ غيرُ مَحْمٍ! لقد تجهزت متشوقاً للرحيل إلى الآخرة مع هؤلاء المعلنين على المشانق”. وبقي النورسي مشدوداً إلى الأمل تحت ظلال المشانق والموت غيث الحرية، فسوف تشب شجرة طوبى للفكر المنير، وتمد أغصانها إلى كل جهة. وسوف يكون الشرق شروقاً للغرب” الحرية غيث. الحرية حسناء ينبغي لها أن تتأدب بآداب الشريعة وفضائلها. تلك هي الحرية الساطعة في شمس الإسلام، معشوقة كل روح، صنو جوهر الإنسانية.(9) إن الاستبداد لم يطفئ شعلة الأمل فيه، بل هي مهددة بالزوال. لأن “دولة يجري في عروقها دم الاستبداد ينعق كلُ سطرٍ في صحائف تأريخها نعيق اليوم مؤذنا بالانقراض”(10) مثل هذه الدولة لم تفلح في قتله بشتى الوسائل، لأن الله فعال لما يريد. لكن لم ينج من السجن والنفي والتعذيب لكنه ظل حاملاً راية دعوته. ولقد رأى في أحواله كلها، أحوال الإنسان في نفسه، فعالجها وداواها وواساها، وأبان همومه وقضاياه بالسير في أغوارها.
———
1 – النورسي/ المثنوي/ قطرة/ ص 127
2 – النورسي/ المثنوي/ صيقل الإسلام/ ص 388
3 – النورسي/ المثنوي/ صيقل الإسلام/ ص 373
4 – النورسي/ المثنوي/ صيقل الإسلام/الخطبة الشامية/ ص 501-502
5 – النورسي/ المثنوي/ صيقل الإسلام/ ص 408-409
6 – النورسي/ الصيقل نفسه/ ص 409
7 – النورس/ المثنوي/ المناظرات/ ص 422
8 – النورسي/ المثنوي/ صيقل الإسلام/ المحكمة العسكرية العرفية/ ص 440
9 – أنظر/ النورسي/ صيقل الإسلام/ ص 393،394،396
10 – النورس/ صيقل الإسلام/ المحكمة العسكرية العرفية/ ص 499
ذ. عوني لطفي اوغلو
مركز كوبرو ( الجسر) للدراسات -استانبول