فطرة الآنام ودين الإسلام


4- فضائل أخلاق الإسلام وعوائق الفطرة

محورية الأخلاق في الإسلام

للأخلاق مقام سام في ما جاء من عقائد وتشريعات  على لسان الأنبياء والرسل الأسبقين قبل الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى لسانه .بل إن جميع الصالحين  والمصلحين والربانيين في تاريخ البشرية،كانت الأخلاق عمدتهم فيما شرعوا لأقوامهم وأممهم، وتكفي نظرات في تاريخ عظماء الإنسانية لاستقراء ذلك.وما تراكمات هذه الفضائل الأخلاقية عبر الزمن التاريخي للإنسان إلا دليل قاطع على ميل الإنسان الفطري إليها ،وأن الأناسي الأولين كانوا يدركون بفطرتهم سموها وجلالها وقيمتها.

أما في  عقيدة الإسلام وشريعته،فالأخلاق متعلقة بها أشد التعلق، بل إنها صمام الأمان لشعب الإيمان، وسواء كانت هذه الشعب تكليفية أوتوجيهية.لهذا قال  :  >إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق<.

و التكليف أصلا إنما كان تكليفا ليحفظ للإنسان المسلم دينه،وهوتطبيق العقيدة بأركانها،يدخل فيها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.وما العبادات إلا تكليف وتصديق بالعقيدة في التقرب إلى الله سبحانه،حيث أن العبادات أساس ينعكس على جانب السلوك،فتنتظم به الحياة والمعاملات في انسجام تام ،وفق ميزان العدل والحكمة اللذين يعدان من مقاصد الشرع في الاستخلاف ،حتى لا يحدث اختلال يؤدي إلى فساد أوخسران.

وأما شعبة التوجيه فتكون فيما فيه للإنسان  من علاقات بنعم الحياة المادية والمعنوية ، وفيما للإنسان من علاقات بالكون الرحب الذي سخره الله له.قال تعالى : {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}(الجاثية : 12).

وكل هذا التناغم في الأسباب المنتظمة مسخر  لحياة الإنسان وأمنه وطمأنينته،  وأداء عمله والقيام بعبادته،وتركيز جانب الخير والفضائل في نفسه،لاستتباب أمر دينه ودنياه،حتى لا تختل موازين أخلاقه وسلوكه ،فيعيث في الأرض فسادا وعبثا وظلما،لأن ذلك سيكون حتما قلبا لموازين قواه الذي ركزها الله في نفسه فطريا،وجعله أكثر ميلا لفعل الخيرات.

وتشريع الإسلام الخالد يقصد أساسا  نظاما واقعيا محكما ،يشمل جميع نواحي حياة الإنسان . والأخلاق فيه محيطة بفكره وسلوكه ونفسه وقلبه أينما دب وحل ،حتى  ولوكان منفردا.وهذه الأخلاق قوام الانتفاع بما في العقيدة والشريعة ، والذي هومؤد حتما إلى السعادتين الدنيوية والأخروية.لأن انقطاع الأخلاق عن الإيمان المجرد بوحدانية الله، والعبادة الصورية، والتمتع بلذائذ الحياة دون حضور جانب الخلق فيها،وانقطاعه عنها يفضي حتما إلى هلاك النفوس والأمم، مهما ادعت بادعاءاتها في إيمانها ،لأن الخلق رتبته الحكمة الإلهية، وحثت على التمسك به تكليفا وتوجيها ،بل إن علة الهلاك المقصودة  للأمم والشعوب في قوله تعالى : {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}(الاسراء : 16)  هي انقطاع الجانب المكرمي الأخلاقي في هذه الأمم،وتفشي جانب المفسدة  السيئ الذي دمر الحياة البشرية .

وهذا سر عناية الرسول الأعظم بالجانب الخلقي في رسالته الخالدة،لأن ذلك ألصق بالفطرة .وبالنظر فيما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأخلاق ،تبدولنا  أهميتها وخطرها في الحياة .

أحاديثه  في الأخلاق

ورد في الأثر النبوي الشريف أحاديث كثيرة صحيحة،تبين مدى أهمية الأخلاق الفاضلة، ولأن  وهج فطرة الإنسان ينسجم معها،فتتألق النفس الإنسانية وتصفو،وتزداد إيمانا وكمالا.وهذه بعضها:

- إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق(9)

- ليس شيء أثقل في الميزان من خلق حسن(10).

- جاء رجل  إليه ذات مرة و وقف بين يديه وسأله : (ما الدين يا رسول الله؟ فقال :حسن الخلق، فجاءه من قبل يمينه، وسأله السؤال نفسه ،وكان الجواب : حسن الخلق، ثم جاءه من الشمال ،ومن الخلف،وسأله السؤال،وكان الجواب هوالجواب)(11).

-  وسئل صلى الله عليه وسلم عن امرأة  قيل له فيها : (كثيرة الصيام والصلاة والصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها،فقال : هي في النار. فقيل: إن فلانة ،فذكر قلة صلاتها   وصيامها وصدقتها ولا تؤذي جيرانها بلسانها،فقال هي  في الجنة)(12).

-  عن أبي ذر جندب بن جنادة، وأبي عبد الرحمان معاذ بن جبل رضي الله  تعالى عنهما ،عن رسول الله  قال : (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)(13).

-  لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه(14).

-  المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده(15).

- إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله(16).

هذا  قليل جدا من كثير جدا، مما حثت عليه السنة النبوية الشريفة.ويبدومنه أن القيم الأخلاقية عمليا هي المبادئ التي يستند إليها السلوك،وما  الفضائل إلا  مثل، قبسها مركوز في الفطرة،ولأن اكتسابها رهين بمعرفة سلم الكمالات، ولها نظام فطري ثابت  تخضع له، مهما تغيرت الأحوال والظروف .

عـــوائق الفطرة

الإسلام دين فطري، لهذا وسم  بالصفاء والسماحة واليسر .وكان اعتناقه  سهلا، لا يجد القلب في الإيمان بعقيدته وشريعته عناء أومشقة،شرط ألا تكون هناك معوقات وحواجز تحول بينه وبين الفطرة.لأن الإسلام من الله والفطرة من الله.فمقره وامتداده في هذه الفطرة.وكان مما يلزم  الواعظين والمرشدين وأهل الإصلاح والتوجيه تطهير البيئة من العوالق المفسدة، والعوائق  الضالة، التي تحجب العقيدة وصالح الأعمال عن الفطرة، فذلك مانع لإدراكها  الحق.

ولما كان الوالدان بما يسببانه  للمولود من طوارئ مزيفة في التربية والتوجيه،بالتهويد أوالتنصير أوالتمجيس، وهوأصلا مولود على الفطرة (أي على الإسلام وتقبل الحق) لزم إزالة كل العوائق أمام فطرته لتعود لتوهجها وصفائها في إدراك عقيدة الإسلام وشريعته.

وقد بين الحق سبحانه وتعالى بعد ذكر آية الفطرة  من سورة الروم هذه العوائق، كما عرض قبلها  الآيات الباهرات التي دلت على عظمة الخالق وقدرته،سواء أ تعلق ذلك بخلق النفوس ومكنوناتها،أم بتكوين أسرها،أم بخلق هذا الكون الفسيح الهائل العظيم، أم بتباين الألسنة  والألوان، أم باللجوء إليه سبحانه ليلا ونهارا وابتغاء فضله،وما ورد في معرض ذلك من آيات البرق وإنزال المطر،وإحياء الأرض بنباتها بعد موتها ،وخضوع نواميس السماء والأرض لقدرته،والبعث ،وقصة نشأة الخلائق وموتها وإعادتها.وقد وردت الآيات مرتبة بفواصل تشير إلى التفكر والعلم والسمع والعقل :

- {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الروم : 20).

- {إن في ذلك لآيات  للعالمين}(الروم : 21).  في قراءة حفص بكسر اللام في العالمين.

-  {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون}(الروم : 22).

- { إنفي ذلك لآيات لقوم يعقلون}(الروم: 23).

والغرض هوتفاعل قوى النفوس والقلوب مع هذه المشاهد الربانية،كي تكون أكثر استعدادا  لقبول الحق، لأن الإنسان إذا تفتحت أحاسيسه ومشاعره على ظواهر الكون الذي خلقه الله تعالى، وأعمل عقله فيها عرف أسرارها وأدرك حقائقها. أما إذا كانت النفوس صماء والقلوب منغلقة ،والأحاسيس متبلدة فهيهات أن تدرك ذلك .وآيات كتاب الله تعالى التي تمثل العقيدة والتشريع تنفذ إلى  الإنسان  بالتفكر والسمع والتعقل،لأن هذه هي  سبل وأدوات المعرفة المؤدية للإيمان الراسخ  الصادق.وبهذا تحيى الفطرةويتألق نورها.أما التبلد والصمم وعدم التعقل فمواقف تفسد الفطرة ،وتمنع عنها الحقائق.

ويتأكد لنا من هذا أن العلم والعقل أساسان  في عقيدة الإسلام، وما هذه الآيات الكونية الباهرة  إلا دعوة لإطلاق العنان للفكر والعقل للانتفاع ، فبهذا تتوهج الفطرةوتصفو.ففي الأكوان الرحبة وظواهرها ديدنها، و في النظر في آيات الله تعالى طلاقها من أسر الضلالات ومحو العوائق المكدرة  لصفوها .وإن  أكبر عائق لها ما ذكرته الآية الكريمة بعد ذلك : {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين}(الروم : 28) .

فالأهواء الطاغية  على الإنسان أعظم  العوائق،لأن معها ينتفي العلم وتطمس الفطرة وتزيف خصالها،إذ أن الشهوات تؤدي إلى الانسلاخ عن الإسلام المنضبط بأحكام عقائده وتشريعاته. وهذه الشهوات مفضية إلى الأوهام والبدع الضالة غير المستندة لا إلى عقل  ولا إلى كتاب منير، لذا قال الحق سبحانه (بل اتبع الذين ظلموا  أهواءهم بغير علم ).  ولهذا أثنى الحق سبحانه على العلم ورفعه إلى أعلى الدرجات فقال : (إن في ذلك لآيات للعالمين)  وأزرى بالجهل وخفض به في أسفل الدركات (فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين).

فالفطرة ودين الإسلام في الإنسان ثابتان مترابطان  في نسق خلقي واحد، ومتناسقان مع نواميس الكون والوجود ،لأن خالقهما واحد أحد،والفطرة ثابتة صافية نقية على خلقتها لا تحب إلا الخير والفضائل ،والإسلام ثابت وهودين الحق به تصفوالنفوس وتطمئن من مغبة الحيرة والتيه، وهولا يدعوإلا إلى الخير والمكارم،فلا تبديل لخلق الله ولا تغيير لصنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه.وما  الانفصام بينهما إلا بمفاسد وأوضار  البيئة.

يقول الإمام ابن قيم الجوزية معلقا بعد شرح قوله تعالى : {الله نور السماوات والأرض} من سورة النور : (هكذا المؤمن : قلبه مضيء يكاد يعرف الحق (الإسلام ) بفطرته وعقله ،ولكن لا مادة له من نفسه،فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه،وخالطت بشاشته فازداد نورا على نور بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه.فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة.نور على نور،فيكاد ينطق بالحق،وإن لم يسمع فيه أثرا،ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت بهفطرته،فيكون نورا على نور.

فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا،ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي وعن شهادة الفطرة)(17).

وقال الإمام رشيد رضا موضحا لعلاقة الفطرة بالقرآن  : (القرآن الكريم كتاب أنزل  على قلب رجل أمي نشأ على الفطرة البشرية ،سليم العقل، صقيل النفس ،طاهر الأخلاق،لم تتملكه تقاليد دينية ولا أهواء دنيوية ،لأجل إحداث ثورة في العالم وسائر الأمم ،يكتسح من العالم الإنساني ما دنس فطرته من رجس الشرك والوثنية،الذي هبط بهذا الإنسان من أفقه الأعلى في عالم الأرض إلى عبادة مثلهن وما هودونه من المخلوقات، وليكتسح  كذلك ما أفسد عقله وذهب باستقلال فكره من البدع الكنسية والتقاليد المذهبية التي أحالت توحيد الأنبياء الأولين وحقهم باطلا وهدايتهم غواية، وليذهب عن الإنسانية ما أذل نفسها وسلب إرادتها ومثل هذه الثورة لا تحدث إلا على قاعدة القرآن ،لأنه يعرف كيف يحرك  بواعث الثورة في الفطرة على قاعدة: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم})(الرعد : 11)(18).

ولما كانت الفطرة والإسلام ثابتين غير متبدلين و{لا تبديل لخلق الله} فهما لا يجافيان التطور ، بل ويدعوان إليه بالعلم والعقل ،ويحتفيان بهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

———–

9- ذكره أصحاب السنن ،وذكر في نور اليقين في سيرة سيد المرسلين.الشيخ محمد الخضري بك. ص : 164. مؤسسة الكتب الثقافية.

10- رواه أحمد في مسنده . من حديث عويمر بن مالك . رقم الحديث : 26256.

11- رواه أصحاب السنن.

12- رواه أحمد في مسنده،وذكره الإمام ابن قيم الجوزية في أعلام الموقعين. ج :4. ص : 412. مطبعة دار الجيل.

13-سنن الترمذي.كتاب البر والصلة.باب ما جاء في معاشرة الناس.الحديث : 1987.ج.4. ص : 312.

14- رواه مسلم .رقم الحديث : 66.

15- سنن الترمذي .رقم الحديث : 2551.

16- مسند أحمد. رقم الحديث : 23536.

17- التفسير القيم.للإمام ابن قيم الجوزية المتوفى سنة : 751 ه.جمع : محمد أويس الندوي. تحقيق : محمد حامد الفقي. ط. 1425 ه /2004 م. دار الكتب العلمية.بيروت.

18- الإمام رشيد رضا صاحب المنار.

ذ. عبد القادر بنعبد الله

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>