باستعمال الاجتهاد الاستنباطي وجد الفقه، إلى جانب الشرع؛ فالشرع هو ما أخذ من نصوص الوحي كتابا أو سنة، دون أن يكون في هذه النصوص أي احتمال، فهو يتوفر على اليقين؛ بينما الفقه هو ما أخذ من نصوص محتملة، أو اعتمد الاستنباط بواسطة المقاصد والمبادئ والمصادر التبعية للتشريع، مما لا يتوفر فيه اليقين؛ ولقد كان الصحابة يدركون الفرق بين الشرع اليقيني، والفقه الذي يلفه الاحتمال؛ قال أبو بكر الصديق] في اجتهاده : هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني، وأستغفر الله(1)؛ وقال عمر بن الخطاب] في نفس المجال : هذا ما رأي عمر، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر، السنة ك ما سنة الله ورسوله، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة(2).
يزعم بعض العلمانيين من القائلين بتاريخية الوحي : أن الخليفة الرشيد الثاني عمر بن الخطاب] عطل بعض نصوص الوحي لأنه رآها غير ملائمة لمقتضيات عصره، كما منع المؤلفة قلوبهم من نصيبهم من أموال الزكاة(3)، وكما في وقفه لحد السرقة(4) عام المجاعة، عام 18ه؛ لكن الواقع غير ما يقولون، فعمر ] دقق في فهم النص، وفي تنزيله على الواقع، فهو لم يعط المؤلفة قلوبهم من أموال الزكاة؛ لأن التأليف لم يعد متوفرا، وهو لم يقم حد السرقة، لأن أحد شروط تطبيق الحد، وهو ألا يسرق السارق تحت ضغط الضرورة أو الحاجة الملحة؛ هذا الشرط لم يتوفر؛ لأن المجاعة العامة كانت قرينة على وجود الاضطرار.
أما الرأي الذي لا علاقة له بالوحي، أو المعارض للوحي، فهذا كان الصحابة، يرفضونه رفضا قاطعا وصارما، مهما يكن قائله؛ لأنه، في تصورهم، مروق من الدين؛ أخرج الإمام مالك في الموطأ : أن معاوية بن أبي سفيان باع سَقُّاية، من ذهب أو وَرِق، بأكثر من وزنها، فقال له ابو الدرداء : سمعت رسول الله ، ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال معاوية : ما أرى بهذا بأسا؛ فقال أبو الدرداء : من يَعذرني من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله ويخبرني عن رأيه؟ لا أساكنك بأرض أنت بها(5).
وبالفعل استقال أبو الدرداء من مهمته بالشام إلى جانب الوالي معاوية بن أبي سفيان، وقدم على الخليفة عمر بن الخطاب بالمدينة، وشكا إليه تصرف معاوية، فكتب عمر إلى واليه بالشام : أن التزم السنة.
واستمر الأمر على هذا المنهج في عصر التابعين : رجوع إلى الكتاب والسنة، وإلى الاجتهاد الاستناطي بوسائله المختلفة : مع التفريق بين الشرع والفقه، ومع مراقبة الفقه بالشرع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وجاء عصر أتباع التابعين، وبدأ تدوين المذاهب الفقهية على يد الامام زيد بن علي، المولود سنة 80هـ، بالمدينة والإمام أبي حنيفة المولود سنة 80 بالكوفة، والإمام مالك بن أنس المولودبالمدينة بالمدينة سنة 90هـ؛ فمارس كل واحد منهم عملية التشريع بأخذ القواعد الشرعية من نصوصها الواضحة، وبأخذ القواعد الفقهية بواسطة الاستنباط، وفق منهج محدد لدى كل منهم للاستنباط، يجتمع هذا المنهج في الكتاب، والسنة، والقياس؛ ويختلف في بعض الشروط، كعمل أهل المدينة بالنسبة للإمام مالك، واشتراط التواتر في السنة، وكون الراوي فقيها، لدى أبي حنيفة؛ وإن كان هؤلاء لم يكتبوا منهجهم الذي أطلق عليه، فيما بعد، اسم (اصول الفقه)؛ مما سيكتبه الإمام الشافعي المولود 150هـ في كتابه، (الرسالة).
كان الأئمة يميزون بين الشرع والفقه؛ فمالك مثلا كان، عندما يفتي انطلاقا من آية قرآنية أو حديث صحيح واضح، كان يبدو عليه الاطمئنان والارتياح؛ لأنه كان يقول : السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق(6)؛ أما عندما يفتي بناء على الاجتهاد الاستنباطي، فقد كان يقول متمثلا بالآية : {إننظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}(الجاثية : 32).
ومعنى هذا الظن في الفتوى : أن الإمام مالكا كان مستعدا للتراجع عن فتواه عندما يتضح له دليل اليقين من سنة لم يطلع عليها؛ وبالفعل تراجع الإمام مالك عن إحدى فتاواه الاجتهادية عندما اطلع على حديث لم يكن قد علم به، قال أحد تلامذة الإمام مالك المصريين : عبد الله بن وهب : سئل مالك عن تخليل أصابع الرجلين في الضوء؟ فقال : ليس ذلك على الناس.
قال ابن وهب : فتركته حتى خَفَّ الناس، ثم قلت له : عندنا في ذلك سنة، قال : وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد، وعمر بن الحارث، وابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أب عبد الرحمن الحبلي، عن المسور بن شداد القرشي، قال :
رأيت رسول الله ، يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه.
فقال الإمام مالك : إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، قال ابن وهب : ثم سمعته بعد ذلك سئل، فأمر بتحليل الأصابع(7).
وبمراعاة هذا الأصل في مذهب مالك، يكون الإمام قد تراجع، تلقائيا، عن بعض فتاواه الاجتهادية التي ظهرت مخالفتها للسنة فيما بعد؛ لقد قال الإمام مالك : إنه لا زكاة في العس(8)، ولكن عند تدويين موسوعات الحديث، ظهر أن رسول الله قال : في العسل في كل عشرة أزق : زق(9).
وقال الإمام أيضا : إن صيام ستة أيام من شوال مكروه “لأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء”(10)؛ لكن ثبت فيما بعد : أن رسول الله قال :
“من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، فذلك كصيام الدهر”(11).
كان الإمام مالك ينهى تلاميذه أن يأخذوا بالرأي ويتركوا السنة، قال لإسحق بن إبراهيم الحنيني : ينبغي أن تتبع آثار رسول الله ، لا تتبع الرأي(12).
كما كان يوصي هؤلاء ألا يأخذوا برأيه إلا بعد عرضه على السنة، قال : انظروا فيه، فإنه دين، وما من أحد إلا ومأخوذ منكلامه، ومردود عليه، إلا صاحب هذه الروضة، يعني به : رسول الله (13).
بل لقد قال الإمام وهو يحتضر : لقد وددت الآن : أني أضرب، على كل مسألة قلتها سوطا، ولا ألقى رسول الله بشيء زدته في شريعته، أو خالفت فيه ظاهرها(14).
إن حذر الإمام هذا من الرأي يجد سنده في نهي القرآن المجيد عن التقدم بين يدي الله ورسوله: {ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذي آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}.
وإضافة إلى الكتاب والسنة والقياس؛ يعتمد الإمام مالك في منهجه الأصول وسائل أخرى، هي :
- الإجماع سواء أكان إجماع علماء المدينة أو إجماع علماء المسلمين عامة.
- عمل أهل المدينة، باعتباره سنة فعلية متواترة، نقلت إليه بجماعة عن جماعة عن رسول الله ، وكان الإمام يقول في هذا، تبعا لشيخه ربيعة الرأي : ألف عن ألف خير من واحد عن واحد.
ـ فتاوى الصحابة، وخاصة فتاوى الخلفاء الراشدين، الذين قال فيهم رسول : >وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجد<(15).
- سد الذرائع، وهو مبدأ قرآني، فالله تعالى نهى عن سب الأصنام، إذا كان من المحتمل أن يرده عبدة الأصنام الفعل بسب الله عز وجل :
{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم} (الأنعام : 109)
ومن سد الذرائع نهي الرسول عن الجلوس على مائدة يدار عليها الخمر؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى ارتكاب المحرمات : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر(16).
- المصالح المرسلة التي ليس لها دليل جزئي ولكن لها دليل عام، من نصوص الشريعة، ومبادئها ومقاصدها، مثل جمع أبي بكر وعمر للقرآن في مصحف، ومثل جمع عثمان المسلمين على مصحف واحد،ومثل فرض الضرائب لإعداد الجيوش وماتحتاجه من عتاد للدفاع عن أرض الاسلام والمسلمين.
………………..
1- إعلام الموقعين ج 1، ص : 45
2- إعلام الموقعين ج 1، ص : 45
3- أنظر الآية 60 من سورة التوبة
4- أنظر الآية 40 من سورة المائدة
5- موطأ الإمام برواية يحيي بن يحيي الليثي، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ص : 634
6- مناقب الإمام مالك ـ الزواوي، ص : 38
7- مناقب الإمام مالك ـ الزواوي ـ ص : 39
8- موطأ مالك ـرواية يحيى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ص : 277-278
9- جامع الترمذي، ج 1، ص : 196، رقم : 514، وهو صحيح، والزِّقُّ : جلد مدبوغ للكبش أو الجدي، كان العرب يحملون فيه العسل أو السمن.
10- موطأ مالك، رواية يحيى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ص : 311
11- صحيح الإمام مسلم، رقم : 1164، ومسند الإمام أحمد ج 5 ص : 417، وص : 419، وصحيح ابن حبان،رقم : 928، قال ابن عبر البر : إنمالكا لم يبلغه هذا الحديث : انظر شرح السنة للإمام اللبغوي، ج 6، ص : 331-332.
12- جامع بيان العلم وفضله، ط دار ابن الجوزي،ص : 1039
13- الميزان الكبرى ـ الشعراني، ج 1، ص : 59
14- نفس المصدر
15- صحيح سنن الترمذي، رقم : 2157، وصحيح
16- صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم : 6382، وهو الإمام الترمذي، وحسنه
د. محمد الحبيب التجكاني
كلية أصول الدين -تطوان