المبادرة إلى  أداء فريضة الحج


 

اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن يكون هو المعبودَ وغيره عبيداً، قال جل شأنه : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الطور: 56)،  فأرسل  رسله  مبشرين ومنذرين  ليبيِّنوا للناس طرقَ ووسائلَ الوصول إلى عبادة خالقهم،  ويحذّروهم من التفريط فيها والتكاسل عنها فقال جل شأنه { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبين لهم، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء،  وهو العزيز الحكيم }(إبراهيم : 4)، وقال سبحانه : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}(الأنبياء : 25)، وإن الله عز وجل سخَّر من الإمكانيات والوسائل للجن والإنس ما يساعدهم  على العبادة ويُمكِّنهم من أدائها في أحسن الظروف وعلى  أحسن الهيآت ، لكي لا يكون للناس حجة على الله بعد الرسل، قال الله سبحانه { وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعُدُّوا نعمة الله لا تُحصوها، إن الإنسان لظلوم كفَّار}(إبراهيم: 34) فرزقَ الله الصحة والعافية والمال واليُسر والأمن وكلَّ ما يُعين على العبادة ويُيَسرها من  أمور مادية و معنوية،  وشرع الرُّخص  والتسهيلات، وبعد ذلك أهاب وطلب ورغَّب وحبَّبَ، وخوَّف ورهَّب، فاستجاب له المؤمنون الصادقون الطائعون، وأعرض وجحد الجاحدون المبطلون، الذين لا يرجون لله وقارا، ولا يرجون لقاء ه.ولقد أمر الله عز وجل عباده بامتثال أمره بالقيام بمجموعة من الشعائر والعبادات طاعة له وتعبُّدا وخضوعا،  كالصلاة والصيام والحج والزكاة والصدقة وأنواع البر كلها ليبلوهم أيهم أحسن عملا. ولقد أوحى الله تبارك وتعظَّم إلى رسولَيْه إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت الحرام في مكة المكرمة، وعندما انتهيا من بنائه أمر الله رسوله إبراهيم أن يؤذن في الناس،  ويُبَلّغهم أن الله قد بنى لهم بيتا فليبادروا إلى حجهوالطواف به عبودية لله عز وجل، قال الله تبارك اسمه مُوجها أمره إلى نبيه إبراهيم : {وأذّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق،  ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}(الحج : 25)، فصَعِد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قُبَيْس قرب مكة وأعلن في الناس أن الله قد بنى لكم بيتا فحُجُّوه، وجاء من بعده ابنه محمد عليه السلام وبلَّغ دعوته من جديد وأعاد نداءه، حتى أصبح الحج ركنا أساسيا من أركان دينه الذي لا  يتم إسلام العبد إلا إذا أدَّاه إن كان مستطيعا، قال الله سبحانه : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } (آل عمران : 97)، وقال  : (من ملك زادا وراحلة تبلِّغه إلى بيت الله ولم يحُج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه : ولله على الناس… العالمين)(1) وقال في حديث آخر : (من لم يمنعه عن الحج  حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس، ولم يحج فليمت  إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا) (2)، وذهب الإمام أبو حنيفة ومالكُُ  وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن الحج واجب على الفور،  لا على التراخي أي  : متى توفرت للمسلم الاستطاعة لا يجوز له أن يتأخر عن الحج للآيات والأحاديث الواردة في ذلك،  ومنها قوله  : (تعجَّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)(3) أي ما يعترضه من الصوارف والموانع ، كالموت والفقر والمرض وغيرها، وقال النبي الأكرم (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرَََََََض المريض، وتضِل الراحلة، وتكون الحاجة)(4).

إن من وجد الاستطاعة لأداء فريضة الحج، وتيقَّن الوصول إلى بيت الله الحرام، فليبادر ولا يتوانى ولا يتقاعس حتى لا يُفوِّت على نفسه خيراتِ ومنافعِ  هذه العبادة ولا يُحرم مما جعل الله فيها منالفوائد والمقاصد التي لا توجد في غيره من العبادات، وينبغي لمن عزم على أداء هذه  الفريضة وهمَّ بزيارة بيت ربه وأن يكون ضيفا عليه أن يهيئ نفسه ويستَعدَّ لذلك أدبيا وماديا وعلميا، لأن تهيَّؤ النفس والاستعداد من علامة حسن النية وكمال الإخلاص.  فعلى المؤمن أن يستعد ماديا فيُعِدَّ المال الذي يكفيه للذهاب والإياب من الحلال الطيب، ويُبقيَ  لأهله ما يكفيهم حتى يرجع، فكما يوفر ويخطط لبناء أو شراء مسكن فيجب عليه أن يدَّخر ويوفر لأداء فريضة ربه، وكما هو معلوم ففرائض الله لها الأولوية وتكاليفها أقل من مصاريف شراء أو بناء دار، ويستعد الاستعداد العلمي بتعلم مناسك الحج والعمرة وفقه أحكامهما وما يتوقف عليه أداء المناسك وصحتها، فيعرف الأركان والواجبات والمندوبات والممنوعات والمكروهات والمبطلات، حتى يكون متبصرا بما يُطلَب منه فعله فيفعله، وبما يُطلَب منه تركه فيتركه، ويختار الرفقة الصالحة التي تُعينه على الخير وتُحفِّزه عليه وتنصحه بالابتعاد عن الشر فـــ(ـالمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل)(5)  كما قال المعصوم ، وعلى من عزم على  الحج أن  يتحلى بالأخلاق الحسنة وهو يؤدي مناسك الحج ، خاصة  الصبر والرفق والحلم  والوُدِّ والتعاون والنصح وكفِّ الأذى حتى يكون حجُه مبرورا وذنبه مغفورا، وعليه أن  يردَّ المظالم لأهلها مادية كانت أو معنوية، ويتحلل من ذلك و يطلب العفو والصفح  من أصحابها عما فات، ويُعوضَ ذلك لهم ماديا إن طلبوه، قال  : >من كانت عنده مظلمة من أخيه من عرضه أو ماله فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ حين لا يكون دينار ولا درهم، وإن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أُخِذ من سيآت صاحبه فجُعِلت عليه<(6)، ويطلب مسامحة الأهل والجيران لِما كان في حقهم من تقصير أو خطإ، لأن الله يغفر الذنوب التي بينه وبين عبده بالندم والإقلاع التام وعدم العودة إليها، وأما التي بين عباده فيما بينهم فلا يغفرها حتى يتصالحوا ويتراضوا فيما بينهم.

أيها المسلم :  إلى متى تَظَل تُسَوِّف عاما بعد عام، وتتردد في أداء هذا الركن، وقد أكرمك الله بالقدرة عليه،  وما ذلك إلا من نفسك الأمارة بالسوء وشيطانك الفتان، لو عُرضت عليك صفقة من صفقات الدنيا ربحُها مضمون لبادرتَ وما ترددت، فكيف بالصفقة مع الله،   والمتاجرة معه،  ففضله عظيم،  وأجره جسيم،  وعطاؤه وفير، أنسيت أن عمرك ليس بيدك، وأنك لا تدري متى تعاجلك الموت، وهل نسيت أن المال الذي بيدك قد يضيع منك ولا يرجع إليك أبدا.أيها المسلم : هيأ لك حبيبك موائد كرمه ومواسم إحسانه، ودعاك بلطفه للنهل منها فلماذا لا تجيب ؟ وأراد استضافتك في بيته الساكن وحرمه الآمن،  فلماذا تأبى أن تكون ضيفا عليه ؟ فلو دعاك زعيم من زعماء الأرض إلى قصره لأجبت سريعا، أما تستحيي من مولاك يدعوك لحاجتك ولا تستجيب ! فإلى متى هذا الإعراض ؟ وإلى متى تستجيب للمخلوق وتنسى الخالق ؟ وإلى متى تلبي نداء هواك وتغفُل عن  نداء مولاك ؟ ما هذه الجفوة ؟

أيها المسلمون : يا من تؤمنون بالله ربا وبمحمد رسولا وبالحج فريضة أما حرّككُم الشوق إلى البيت الحرام ! أما أردتم استكمال فرائض الإسلام ! أما أنعم الله عليكم بنعمتي الصحة والمال ؟ ألا فاستعدوا لأداء هذه الفريضة في السنوات المقبلة وليكن لكم عزم على ذلك، ولا تغتروا ببقاء المال و العمر، فإن الأعمار تنتهي والآجال تنقضي، والموانع تهجم، والمشكلات ما أكثرها في عصرنا، والمال يفنى، والأسقام تهجم، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا،  وما تدري نفس بأي أرض تموت، قال الرسول : >بادروا بالأعمال سبعا : هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفنِّدا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمرّ <(7) .فاغتنموا الفرصة -  أيها المسلمون -  فكيف  ترضون أن تكونوا محرومين من أداء هذه الفريضة ؟ أترضون أن يذهب جهدكم ولم  تبذلوه في حج بيت الله والطواف حوله، أترضون أن يفنى مالكم و لم تنفقوه  في الوصول إلى بيت ربكم، أترضون أن تموتوا يهودا أو نصارى بإعراضكم عن الحج، أما أثّر فيكم ترهيب رسولكم !. جاء في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه أنه قال : (إن عبدا صححت له جسمه، ووسعت  عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد علَيَّ :  لَمحروم)(8)، فهذا  الحديث يحمل في طياته من الرفق والإعذار والعتاب والتشويق ما  يجعل القلوب الصادقة لا تتردد في زيارة بيت ربها ولا تقضي منه وطرا، وغاية  الإعذار من الله  أن يُنعم على عبده بوافر المال والصحة حتى لا يبقى  له عذر يَمنعه من الحج وتكراره مرة تلو أخرى،  فالسعيد من انتبه لنفسه وعمل بمقتضى عقله، واغتنم الزمان والمال والصحة في صالح الأعمال وأزكاها. إن الناس عندما يُعرضون عن الحج ويُؤخرونه أو يتركونه بالمرة، فهم يؤخرون أو  يتركون زيارة ربهم وحبيبهم، لأن الحج رحلة إلى الله قبل كل شيء، ويظهر ذلك من قول الرسول في الحديث القدسي (لا يفد إلي) فيُحرمون من مولاهم، وكيف لا يكون محروما من زهِد في مولاه ورغِب عن الثواب وغفران الذنوب، وحُرِم رحمة الله والكينونة في وفد الله، قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام :  (الحاج والمعتمر وفد الله)(9)  إن في الإعراض عن الحج غاية الحرمان من خيرات كثيرة غزيرة.

قال عمر رضي الله عنه : ” لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جِدَة(10)  ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ”

———-

1- رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب في كتاب الحج، وقال حديث غريب، وقال ابن

حجر الهيثمي في تعليقه عليه : الحاصل أن الحديث ضعيف، لكن مثل هذا الحديث لا

يقال من قبل الرأي، فيكون في حكم المرفوع، ومن ثَم أفتيت بأنه حديث صحيح.

2-   رواه الدارمي في كتاب المناسك عن أبي أمامة

3-  رواه أحمد كتاب مسند بنو هاشم عن ابن عباس ورواه الأصبهاني والبيهقي

4- رواه أحمد كتاب مسند بنو هاشم عن ابن عباس والدارمي وابن ماجة

5-  رواه أحمد كتاب باقي مسند المكثرين عن أبي هريرة

6- رواه البخاري في كتاب المظالم وأحمد في كتاب باقي مسند المكثرين عن أبي

هريرة

7-  رواه الترمذي كتاب الزهد عن أبي هريرة

8-  رواه ابن حبان والبيهقي وأبو يعلى والسيوطي في الجامع الصغير وقال

الهيثمي رجاله رجال الصحيح وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط

9- رواه ابن ماجة كتاب المناسك عن أبي هريرة

10- الجِدَة : الغنى واليسار

أحمد المتوكل

خطيب مسجد الرميلة مدينة تاونات المغرب

elmotaoukkel4@hotmail.com

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>