العمل الإسلامي بين المطامع الدنيوية والانتصار للذاتية


 

إن أعداء الإسلام يبذلون قصارى جهدهم، وينفقون الغالي والنفيس في سبيل تحقيق غاياتهم-ولن يبلغوها بإذن الله- وهي تشويه الإسلام ونعت المسلمين بأبشع النعوت خاصة بعد 11شتنبر ظانين ظن السوء أنهم بذلك سينتهون منه {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. ومما يؤسف له أننا نعمل  على مساعدتهم في ذلك دون أن نعلم، فإهمالنا لتعاليم شريعتنا الغراء وانغماسنا في ملذات الدنيا الفانية، واشتغالنا بالخلافات الدونية الرخيصة الحالقة للعلاقات بين الأفراد والجماعات، والجري وراء الأحمرين حلالا كانا أم حراما، وأكبر من هذا كله هجر القرآن واتخاذه كديكور نمسح عنه الغبار، أو نتبرك به عند الموت، أو الاهتمام بتجويده وترتيله دون تطبيقه والعمل به، كل هذا يجعلنا نعيش فراغا روحيا مروعا، كأننا أعجاز نخل خاوية مهيأة لاستقبال أفكارهم المادية وثقافتهم المسمومة وبالتالي نصبح فاقدين لهويتنا وعزتنا الاسلامية، الأمر الذي جعلنا نصبح مُؤَثَّرين لا مُؤَثِّرين، ونسينا أن الله عز وجل جعلنا خير الأمم حيث قال في محكم التنزيل : {كنتم خير أمة أخرجت للناس}(آل عمران : 110). وما نراه داخل المجتمع لهو خير دليل على إهمالنا لديننا، فانتشار المخدرات التي تقضي على عقول من يمثلون الفئة المهمة في الهرم السكاني أو بعبارة أخرى من يمثلون المرحلة العمرية الذهبية وهي مرحلة الشباب مرحلة العطاء، بل وامتدت حتى أنها أصبحت تطال الأطفال أيضا.

وارتفاع نسبة الطلاق والعنوسة الذيْن يسيران في خطين تصاعديين مهولين نتيجة التفسخ الأخلاقي الذي جعل الرجل -عفوا الذكر فقط- يروي ظمأه الحيواني عبر نظرات بهيمية لجسد المرأة -الأنثى فقط- الذي يملأ الشوارع بلباس عار دون قيد أو شرط الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة اللقطاء -معذرة الضحايا- لأنه ليس لهم ذنب سوى أنهم يؤدون ثمن أخطاء شهوات بهيمية.

أما إذا انتقلنا إلى المعاملات الربوية فحدث ولا حرج فقد انتشرت بشكل جعلت العديد يعلقون حِلِّيتها على مقولة (الضرورات تبيح المحظورات) فأصبح العديد من المسلمين يدورون في فلك الكريدي ولو قرأوا وتأملوا قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله}(البقرة 278/279)، لفَرُّوا من الربا كما تفر الحُمُر المستنفرة من القَسْورة.

وطبعا لن ننسى قطاع التعليم الذي يعتبر القلب النابض واللبنة الأساس في كل مجتمع، وما طاله من غش وغياب للضمير المهني الذي أدى إلى انحطاط كبير في المستوى التعليمي لفلذات أكبادنا تبعه انحطاط في المستوى التربوي والاخلاقي، وما ظهور الساعات الإضافية بشكل ملفت للنظر إلا دليلاً على نقص في الأداء الوظيفي لهذه المهنة المقدسة، ولو علم رجال التعليم أن المهمة التي يقومون بها هي مهنة الأنبياء والرسل، وهي مهنة جليلة رفع الله من قدر أصحابها حيث استشهد بهم على قضية الوحدانية قال عز وجل : {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط} لأدوها بقلوبهم وعقولهم سائلين الله عز وجل أن يتقبل منهم، وقد قيل فيهم أيضا (خير من وطأ الثَّرى المعلمون والمتعلمون).

أقول : هذه المشاكل وغيرها جعلتني أتساءل، لماذا الحقل الإسلامي مليء بالعاملين به، وخطب نسمعها هنا وهناك دروس ومواعظ؟؟ لكن التأثير قليل وقليل جدا، لماذا هناك الكثير ممن يحفظ آيات وأحاديث كثيرة، لكن في التعامل نجد تناقضا بين المقال والحال؟؟ لماذا جفت عيوننا؟ لماذا قست قلوبنا؟

وجدت جوابا شافيا عند الأستاذ محمد قطب حيث قال : “يكمن الإشكال في الحكم على الأوضاع القائمة في العالم الإسلامي، في التناقض الشديد بين ما يعلنه الناس عقيدة لهم وما يمارسونه في الواقع”(ص32 من كتاب : كيف ندعو الناس) ويقول أيضا : “… حتى أصبحت لا إله إلا الله كلمة تقال باللسان، لا تاثير لها في واقع الكثرة الكاثرة من الناس، إلا من رحم ربك” (ص37 نفس الكتاب)

فإذا غاب الفهم الصحيح لكلمة التوحيد “لا إله إلا الله” لدى العاملين في الحقل الإسلامي، ثم تطبيقها على أرض الواقع كما فعل الجيل الفريد فكيف للعامة؟؟ إن إصلاح المجتمع وإحراز النصر والتمكين، والقضاء على المشاكل الطينية الهابطة، وإنقاذ المسلم من مستنقع العبودية لغير الله، والانتقال به إلى  رحاب رحماته عز وجل لا يمكن أن يتم إلا إذا تخلص الدعاة، والعاملون في حقل الدعوة، من المطامع الدنيوية وترفعوا عن الانتصار للذاتية “فلا حق لهم بأن يقولوا نحن ندعو لله تعالى وقلوبهم لم تتخلص من حب الدنيا، وحب الولد، وحب الزوجة، وحب الوظيفة، وحب السلطة، إلى درجة ترك الدعوة أو جعلها على الهامش عند التعارض مع المحبوبات الرخيصة، وبعد ذلك نرجو نصرا، ونرجو تمكينا لدين الله تعالى، دين الله تعالى لا يتمكن في الأرض إلا بعد أن يتمكن من القلوب” ص82 من كتاب دروس من سيرة الحبيب المصطفى للمؤمنينوالدعاة الشرفا للأستاذ المفضل الفلواتي.

فإذا تحرر كل داعية إلى الله من القيود المادية، ومن المطالب الترابية ومن الانتصار للذاتية، فسيفوز برضا الله في الدنيا والآخرة، وسيكون لا محالة شمعة مضيئة وقدوة منيرة لكل تائه وتائهة، وهذا لن يتأتى إلا إذا تربى على التجرد التام لله عز وجل، وألا “يخلط بين الدعوة وبين الأَنَا القائمة بالدعوة، والتي يقول فيها صاحبها أنا ممثل الدعوة أنا الذي تتوفر فيَّ الصفات المطلوبة للقيادة، إذن فما يصيب شخصي، يصيب الدعوة، وما ريحني وترتاح إليه نفسي هو صالح للدعوة، هكذا يتدسس الشيطان إلى النفوس فيجعل ذواتنا مركز اهتمامنا ومركز تحركاتنا” ص168 كيف ندعو الناس : محمد قطب

وبالتالي نصبح غير قادرين على تحمل النقد والنصيحة سواء لأفكارنا أو لطريقة عملنا وتأخذنا العزة بالاثم. ألا فليحذر العاملون في حقل الدعوة من الانزلاق وراء هوى النفس التي قال عنها الإمام الغزالي : (النفس أخبث من 70 شيطانا) وأن يكون زادهم ومرجعهم في تحركاتهم وخلافاتهم كتاب الله وسنة نبيه  وقراءة السيرة ومدارستها ليعلم كل مسلم أن المسلمين الأوائل ذاقوا في سبيل الدعوة شتى أنواع العذاب والتنكيل وكانوا “لا يتهافتون على الوظائف والمناصب فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ويزكوا أنفسهم، وينشروا دعاية لها، فإذا تولوا شيئا من أمور المسلمين لم يعدوه مغنما…. بل عدوه أمانة في عنقهم وامتحانا لهم” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أبو الحسن الندوي.

إن الدعوة إلى الله هي تكليف وليست بتشريف وهي دعوة بالقدوة الحسنة قبل الموعظة الرنانة وعلى العاملين في حقل الدعوة أن يعْلموا أنهم أحوج إلى الإخلاص من غيرهم وأن يجعلوه المنطلق في تحركاتهم وسكناتهم وقولهم وفعلهم وألا يكون هدفهم مطمع دنيوي ترابي رخيص كحب المسؤولية: أو حب الكرسي، أو حب المدح والشهرة ولله در صحابي جليل حيث قال : “اللهم اجعلني مهمولا بين أهل الأرض مشهورا بين أهل السماء”، وألا ينشغلوا ويخوضوا في خلافات جزئية رخيصة سببها الانتصار للذاتية الناتجة عن قلوب مريضة لأن القلب السليم لا يعرف الانتصار للنفس وقد نبهنا النبي  لذلك حيث قال : >إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها<(رواه الطبراني في المعجم الكبير).

إن حب الذات والانتصار لها “آفة من الآفات في كثير من البارزين من رجال الدعوات الربانية حتى الصوام القوام منهم : أن يذكروا ذواتهم وينسوا ربهم مع إعلانهم المتكرر بأن الله هو الغاية، وأن رضوانه هو المنتهى، ومع علمهم بأن مقامهم عند الله لا ينال بالشهرة ولا بالمنصب >فرب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره< وجاء في الحديث الشريف : “إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا” ص 247 من كتاب (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) الدكتور يوسف القرضاوي

إن مهمة العاملين في الحقل الإسلامي اليوم مهمة شاقة وصعبة إن على مستوى بناء الأسرة أو بناء المجتمع، والعودة به إلى رياض الإسلام الصحيحة الفسيحة، وهذا لن يتحقق إلا إذا خرج حب الدنيا وحب الذات من القلوب لأن حب الدنيا هو سبب ضعفنا وهواننا على غيرنا قال الحبيب المصطفى : “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن” قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال : >حب الدنيا وكراهية الموت<(أخرجه أحمد وأبو داود).

فيوم تحرر النفوس من الأغلال الذاتية، وقيود الأهواء، وسلاسل الأطماع، وحمى الكراسي سنحقق الأخوة الصادقة والتي بدونها لن يكون عمل دعوي جاد هادف ولنا في المهاجرين والأنصار خير مثال حيث ترك المهاجرون مالهم وما عَزَّ عليهم في سبيل الدعوة، واستقبلهم الأنصار بالترفع عما في أيديهم وتقسيمه مع إخوانهم المهاجرين، أيضا في سبيل الدعوة فكان المنطلق واحد هو حب الله ورسوله والمبتغى واحد هو رضا الله ورسوله.

فمتى سنهاجر نحن إلى الله ورسوله؟؟

إن المجتمع في حاجة ماسة  إلى عاملين أتقياء أصفياء يمثلون قوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هو المفلحون}(آل عمران : 104). بكل صدق وإخلاص بعيدين كل البعد عن المطامع والأهواء.

بقلم : رشيدة أنور

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>