إكرام الإنسان يتمثل في جانبين كبيرين هما :
أولا : تمتيعه بالحرية الشاملة في :
أ- تديُّنه، لأن الدين بين العبد وربه، ولا حق لأحد في الدخول بينه وبين ربه، فله الحق في أن يدخل في الإسلام بدون إكراه، وله الحق في أن ينافِق بدون أن يُكشَف له سِتْرٌ، أو يُخْرج من صف المسلمين في إرث، أو زواج، أو دَفْنٍ. كل هذا مادام لمْ يُعْلِن الارتداد صراحة، ويعلن المجاهرة بمحاربة الدين كتابة أو تأليفا، أو إعلاماً أو دعوة للإلحاد بيْن المسلمين، بدون افتِضَاح ارتباطه بأعداء المسلمين واستئجار نفسه لهم… فهذا تعدّى حقه في الحرية لنفسه، واختار صَدَّ الناس عن حرية اختيارهم فصار فتنةً يجب إخمادُها وحماية الناس منها.
ب- حريته في التملك المشروع، والكسب المشروع، والإنفاق المشروع، وإبداء الرأي المشروع في التجاوزات التي يحق لكل مواطن ذي فكر شريف وهدف نبيل أن يساهم في الاصلاح بالمحافظة على الثروة العامة.
جـ- حريته في ابداء آرائه في كل شأن من شؤون المجتمع سياسة، وتعليما، واقتصاداً، وأسرة وتصنيعا، وَوُقُوفا ضد الانهيار المتمثل في التبعية التي تُفقد الدولة شخصيتها واستقلالها. فإن كبار قومنا أصبَحُوا يمارسون حَقّ الوصاية على شعوبهم بدون حق فيُبْرمون أموراً سياسية واقتصادية وعسكرية لا علم للشعوب بها، بل هؤلاء الكبار يعتقدون أن هذه الشعوبَ أحْقَرُ وأدْنَى من أن تُستشار أو حتى تُخبَر، وتلك مصيبة المصائب، وقمة الإذلال، وذروة الاستبداد الذي يُهين الشعوب ويجعلها تتمنى الخلاص من هؤلاء الكبار على يد من كان، ولو كان المخلِّص أعْدَى أعدائها.
فكيف ينتظر الكبارُ وقوفَ شعب مهانٍ على أيديهم معَهُم لحمايتهم ونُصرتهم، وهم الذين قتلوا فيه روح العزة والكرامة بالقتل، والسحل، والاغتيال والسجن والتعذيب والتجويعلهم ولأسرهم وأقاربهم وأصدقائهم، فكيف يؤيدونهم وهم يعرفون أن الكبار مشغولون ببناء السجون والمعتقلات ودهاليز الاستنطاق الجهنمي على أبسط التهم، وأحيانا على مجرد الظنون، ومجرد استجواب يُقْرأ قراءة أمنية تقْرأ فيه الكلماتُ من باطنها -الموكول لله تعالى- لا من ظاهرها الواضح البراءة مع أن الرسول يقول : >أُمِرْتُ أن أحْكُم بالظّاهِر واللَّه يتَوَلَّى السّرَائِر< فليس في الإسلام حكم على كتاب مشفّر أو رسالة مشفّرة، أو استجواب مشفّر، وإنما الحكم في الإسلام ينبني على تهمة واضحة وشهود عليها، حتى التهمة بدون بينة لا توجب عقوبة، بل من منهاج الإسلام في هذا السبيل هو >دَرْءُ الحُدُودِ بالشُّبُهاتِ< كُل هذا لإكرامِ المسلم وجعْلِه لا يخاف إلا من ذَنْبِه، فمادَام غَيْر مُذْنِبٍ فلا حق لأحَدٍ في أن يجعله يعيش محْنِيَّ الرأس ذليلا مهانا صامتا يتقوقع على نفسه وهمِّه وطموحه وفعاليته لا ينشد إلا السلامة، أما التفكير في الإبداع والمساهمة في طَرْدِ التخلف فبعيدٌ عنه بُعْدَ السماء عن الأرض.
ثانيا : تمتيعه بالحريّة المطلقة في اخْتيار منْ يَقُودُه ويتكَلَّمُ باسْمِه : إذا كان الله عز وجل أعطى لكل إنسان الحق في اختيار دينه (الإسلام)، فقال {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُومِنْ ومَن شَاءَ فليَكْفُرْ}(الكهف) وهو القادر -لو شاء- أن يجعل الناس أمة واحدة على دين واحد، وفكر واحد، ومع ذلك لم يفعل سبحانه وتعالى لحكمة الاختلاف المتنوع الذي يبني ولا يهدم، ويتكامل ولا يتطاحن، {ولوْ شَاءَ اللّهُ لجَعَلَكُم أمَّةً واحِدَةً}(المائدة) فكيف يفعل الإنسان ما تنزّه الله تعالى عن فعله لمصلحة الإنسان المؤكدة في الاختلاف الباني، حيث نجد الإنسان يحكم أخاه الإنسان بالقبضة الحديدية، فحزبُه هو الحزبُ المقدّس، ورئيسهُ هو الأوحدُ الأمجد، وفكره هو الفكر الأنور والأرشد، ومذهبه هو المذهب الأسَدُّ والأهدى، ولو قاد إلى الكوارث التي نرى أن أمتنا وشعوبنا قد غرقت فيها من الأرْجُل إلى الآذان، فلم يجعَلْنا أضحوكة بين الأنام، ومصنّفين في آخر قافلة التخلف والتراجُع الحضاري إلا هذا الفكر الأوحد في عنتريّاته وعُلوه واستكباره.
وإذا كان الله تعالى يطعم الكافر به ويسقيه ويمتّعه بالشمس والقمر والليل والنهار، ويُمد له في الحياة مدّاً -اكراماً له في الدنيا- واستدراجا له في الآخرة فيكف يبيح لأنفسهم أصحاب الحزب الواحد والفكر الواحد والمذهب الواحد والزعامة الواحدية أن يعطوا لأنفسهم الحق في قتل المعارض، أو سجنه، وتعذيبه، والتنكيل به؟ في أي فقه سياسي وجدوا هذا؟! وفي أي دين وجدوا هذا؟ وفي أية ملة وجدوا هذا؟! إن هذا الاستبداد لم ينزل به قرآن، ولا تضّمنه دين من الأديان، ولا نصَّت عليه فلسفة إنسان.
فلماذا ابْتُليت أمتنا -وهي الحاملة لنور الحرية- بهذا المرض الخبيث؟!
ابتليت به :
- لأن ميزان الدنيا بدأ يرجح على ميزان الآخرة بمختلف التأويلات التي بدأت تضعُف عندها حلاوة الآخرة، وقد أبصر هذا الميلان مبكراً أبو ذر الغفاري ] فحاول إيقافه في أوائله، ولكنه لم يجد أنصاراً مبصرين مِثل إبصاره، فنُفي للربذه، فلم يُشيّعْه إلا علي كرم الله وجهه، ولم يكن ] معارض حكم، ولا ثائراً على حاكم، ولا باغي فتنة ولكنه كان يحب تصحيح الأوضاع على ا لنحو الذي عاش به مع رسول الله ومع الخليفتين بعده.
- هذا النوع من الإيثار للدنيا على الآخرة، ومن حب الاستئثار بالسلطان والمال طغى واستفحل في العهد الأموي حتَّى حُيِّدتْ الأمة تحييداً تاماً عن إعطاء رأيها الحر في شؤون الحكم والمال، فقد أصبح ذلك من اختصاص من انتزع الحكم بسلطان القوة، وليس بسلطان الحق، وآنذاك قُدم شرعُ حقِّ القوة، وأُخِّر شرع قوة الحق الذي ما زالت الإنسانية تسير عليه إلى الآن، حيث ارتدّت الإنسانية إلى ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وكان الفضل للإسلام، وحْده -في فترته الزاهرة- في إرجاع الإنسانية لرُشدها وجعلها تمشي على الأرجل رافعة رؤوسها للسماء كما خلقها الله تعالى على فطرتها الأولى، تعيش للحق وحْده، وبالحق تسعد، وللحق تفْدي وتضحي بالنفس، وعلى الحق تموت، وعلى الحق تبايع غير مبالية بالتبعات.
هذا المرض الخطير الذي أبصر طلائعه أبو ذر ] استفحل إلى درجة أنه أصبح سياسة معلنة، ودستوراً متبعا يكلف من عارضه حزَّ ا لرقاب، فكان العُمّال والولاة يرسخونه في الناس، وهكذا نجد زياد بن أبيه يقول في خطبته البتراء : >أيُّها الناسُ إنّا أصْبَحْنا لكم سَاسةً وعنْكُم ذَادَةً نسُوسُكُم بسُلْطان الله الذِي أعْطَانا، وبِفَيْء اللّهِ الذِي خَوَّلَنا< السلطان أعطاه الله تعالى لنا، والمال جعله الله تعالى بين أيدينا، ولا حق لكم في إبداء رأي لا في السلطان ولا في الأموال، إنها سلطة لم يعطها الله تعالى لا لنبي ولا لرسول، ويأتي الحجاج ويقول : >إنِّي أَرَى رُؤُوساً قَدْ أينَعَتْ وحانَ قِطَافُهَا وإنِّي لَصَاحِبُها< إنه لا يحمل إلا رسالة القتل والذبح.
- ثم استقر هذا النوع من سياسة القوة التي قتلت روح المقاومة والابتكار للمؤسسات والعلوم والفنون والبحوث والاختراع في كل ميدان من ميادين الكون المسخر براً وبحرا وجواً، وعندما هجم علينا المستعمر بآلياته وتقنياته وجدنا لقمة سائغة فابتلعنا بدون مضغ، وسلط علينا بيادقه وأجراءه وفكره المسموم فوجدنا بدون شوك فتمكن، ومن وجَدَه غير قابل للمطاوعة من بعض الحكام المنصَّبين بدون قاعِدة شعبية تدافع عنه -وجلهم كذلك- أزاحه طوعا أوكرهاً.
ونحن الآن في هذه المرحلة، مرحلة تنقية الأجواء للاستعمار الجديد، فكم من حكام صُفُّوا بقوة الحديد، أو بقوة السم، أو بقوة التهييج لعامة الشعب الغوغائي، أو بقوة التثوير للمعارضة البرلمانية حتى تسقط الحكومة والرئيس بقوة العصا والضرب بالرؤوس والرفس بالأرجل.
وكم من حكام في قائمة الانتظار، فمن يحمي هؤلاء المتنظرين؟! لا يحميهم إلا الهروب إلى الأمام، والهروب إلى الأمام، هوالهروب إلى الشعب بإعلان التوبة عن كل إساءة، وإخلاء السجون، ومسح القوانين الجائرة، وإفساح المجال للحرية المسؤولة التي من شأنها أن تعيد الكرامة لشرفاء الأمة وشعوبها الذين يدعون بإخلاص إلى إرجاع الأمة لمكانتها التي وضعها الله تعالى فيها، ولا يتم ذلك إلا برفع الحجر عن العلماء الشرفاء الربانيين، بل وتأسيس المعاهد والمؤسسات التي تتولى إخراج الأكفاء الكفلاء بتعبئة الأمة روحيا، وشحْذ فاعليتها في كل ميدان، والعمل على جمعها على ما اجتمعت الأمة الخيرة الأولى (كتاب الله وسنة رسول الله).