من أجل منهاج تجديدي في الفكر والعلوم الإسلامية (رؤية منهجية)


في تحديات الجبهة الخارجية

أقتصر فيها على قضيتين أساسيتين:

> أولا : ودون التوغل في التاريخ القديم نجد أن تحديات هذه الجبهة ابتدأت بشكل منظم مع الحملات الاستعمارية الحديثة على العالم الإسلامي، والتي عملت على استنبات نماذجه الفكرية والثقافية وإحلال نظمه السياسية والاقتصادية. والمقصود بالغرب هنا -كي نتجنب التعميم- الغرب الاستعماري الاستعلائي، الممجد لنزعات القوة والهيمنة والتسلط، والقهر لشعوبه وشعوب العالم. والذي لا يرى ذاته إلا مركزا وغيره إلا أطرافا وهوامش.

فمنذ الفصل مع الفكر اللاهوتي الكنسي، وعمليات التفكيك العلمانية الكبرى التي تعرض لها كل فكر لاهوتي غيبي، حيث أعلن عن موت الإله، بدأت عمليات تحطيم القيم والثوابت والمطلقات والأخلاق وكل ما لا يخضع للحس والتجريب. وعمليات استدراج وسحب الإنسان من موقعه كمركز مؤسس للحضارة، في إطار فلسفة التكريم له، والتسخير لما حوله، إلى كونه دائرا في فلك مادي جدلي طبيعي واستهلاكي نفعي. وقد نجحت الفلسفات المادية إلى حد كبير في تحويل عالم غيب الإنسان إلى عالم طبيعته، وأن تجعل بدل جنته الأخروية فردوسا أرضيا زائفا، وفق محددات صارمة كالربح والإنتاج ورأس المال والاستهلاك والمتعة واللذة والحرية والإشباع .. لدرجة السيولة الشاملة حيث يمكن التمييز بين الإنسان الإنساني والإنسان الطبيعي.

فأخطر مشكلات الإنسان الغربي، والتي غدت مشكلات كونية بحكم الهيمنة والتوسع، هي مشكلة فلسفة الإنسان نفسه، الذي لم يبق كائنا مركبا بأبعاده الروحية والعقلية والجسمية بمعتقداته وقيمه وأخلاقه … حيث تم تبسيطه إلى عنصر طبيعي. وعجزت علوم الغرب الإنسانية عن حل مشكلاته الاجتماعية، كما عجزت علومه الصناعية عن تحقيق وعدها بالمجتمع السعيد وبالفردوس الأرضي، فتفاقمت مشكلات الإدمان والشذوذ والانحراف والانتحار والجريمة وحرية الأقليات المتمركزة حول ذاتها ومشاكل الأسرة ونماذجها واللا معنى واللا غاية في الحياة .. وغير ذلك مما يعكس قصور وعجز منظومة الفكر المادي، والتفسير المستغني والمستكفي بذاته عن أية إضافة أوترشيد وتسديد خارجي.

وها هنا يأتي دور الفكر الإسلامي باعتباره فكرا إنسانيا كذلك، لعموم خطاب رسالته وكونها رسالة الناس، ليسهم في حل ما عجز الفكر الغربي عن حله انطلاقا من عقيدة التوحيد التي تضفي على حياة الإنسان ووجوده المادي الغائية والقصدية، وتؤطر الإنسان بفلسفة تكريم كلية مستوعبة، والكون والطبيعة بفلسفة تسخير وإعمار لخير الإنسانية. وهذا مدخل أساس من مداخل البناء الكوني الإنساني لفكرنا الإسلامي، والتحرر ولونسبيا من قطريته وإقليميته وقوميته. بإمكانه كذلك أن يرد الاعتبار لذات الأمة إذا كانت إجابتها وحلولها في مستوى التحديات، وأن يشحذ فاعليتها ويبعث ثقتها في ذاتها وخصائصها من جديد.

أن يسهم الفكر الإسلامي كذلك، في السياق ذاته، في نقد مخلفات وآثار التوجه المادي الصناعي العبثي والأعمى نحوالربح ولا شيء غير الربح، ولوكلف ذلك حروبا مدمرة للبشرية، وإتلافا لمقدرات وخيرات الطبيعة، وتلويثا للبيئة، وتسلحا نوويا وغازات سامة … وما إليها. وباختصار أن يؤتى الغرب من جهة فقره وعجزه وأن ينفق الفكر الإسلامي من جهة غنى الإسلام وقدرته.

> ثانيا: أما القضية الثانية، فهي في كون مداخل التغريب والاستلاب وبتعبير البعض: مقدمات الإستتباع، فكرية ثقافية بالدرجة الأولى، حيث نجح الغرب في صك وترويج مجموعة من “الدمغات والأختام الجاهزة …” مصطلحات ومفاهيم، ذات قدرات تأثيرية عالية منذ عصر نهضته إلى عصر عولمته (كالنهضة، والتقدم والأنوار … إلى الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة، وما صاحب ذلكمن مفاهيم ومصطلحات مكملة) كالحرية والديمقراطية والعقلانية والعلمانية والقومية والليبرالية… وغيرها، حيث تلقت تيارات الفكر العربي والإسلامي المعاصر هذا الطوفان من المفاهيم تلقيات مختلفة يمكن إجمالها في مواقف ثلاث مختلفة: موقف التبني الكامل والانخراط الكلي فيها بكامل حمولتها الغربية التاريخية، وموقف الرفض الكلي الشامل لها باعتبارها وافدة من مستعمر مخالف في الملة، وموقف توفيقي (تلفيقي) يحاول أن يضع رجلا هنا ورجلا هناك. وكلها مواقف لم تسعف لا في تحصين فكر الأمة ولا في نهضته ولا في تحقيق جدل أوحوار متوازن.

وإن من مستعجلات فكرنا الإسلامي المعاصر البدار المنظم والمنتظم للاشتغال على جبهة المفاهيم والمصطلحات باعتبارها مفاتيح علوم وثقافة وفكر، والتي تسحب أرصدتها الذاتية تباعا بعامل الزحف الأجنبي الدلالي عليها. وذلك بإعادة بنائها ذاتيا وتحريرها من التضمينات الأجنبية الدخيلة عليها، دون أن يمنع ذلك من كل إفادة ايجابية منها. ثم ولم لا إعادة تسميتها من خلال المعجم العربي. هذا حتى يمكن لتلك المفاهيم أن تقوم بوظائف البناء الذاتي لا الإلحاقي، فتسهم في بناء حداثة الأمة الخاصة بها. ونهضتها الخاصة بها، من غير استنساخ لنموذج ناجز جاهز. وتستأنف حركة التجديد والاجتهاد فيها من زاوية رؤيتها ومرجعيتها الخاصة، والتي تمنحها – بحكم عالميتها وكونيتها- كل إمكانات الانفتاح على التجارب والخبرات البشرية المختلفة.

نحو منهاج بنائي للفكر والعلوم الإسلامية

تجدر الإشارة أولا، إلى أننا نتحدث عن منهاج كلي مستوعب يمكن أن تندرج تحته فروع منهجية بحسب الحقول العلمية.

وهذا المنهاج ليس آلة محايدة، يقوم بوظائفه بمعزل عن أطره المرجعية، بل الأصل فيه أن يعكس رؤية تتجلى في جميع فروعه. فالفلسفة المادية الاستهلاكية الموجهة للغرب الآن والتي لا حضور فيها لعالم القيم والتراحم والأخلاق والمثل، تنعكس حتى على أدق العلوم التجريبية فتجعلها متحيزة ماديا لا إنسانيا. (ينظر هنا العمل الموسوعي الذي أشرف عليه د.المسيري تحت عنوان: إشكالية التحيز).

هذا المنهاج العام لم يتبلور في ثقافتنا التاريخية ولا الراهنة، فقد كان ممارسة عملية في الصدر الإسلامي الأول لكن بعده لم يعمل على استخراج معالمه أوالتأسيس لمقوماته، لا في عصر التدوين ولا بعده. وكما انفصلت العلوم الإسلامية عن بعضها، استقلت كذلك بمناهجها، فتعددت المناهج بدورها دون ناظم منهجي عام.

وهذه المناهج الجزئية ليس بإمكانها أن تستوعب القضايا الكلية المطروحة على ساحة التدافع الكوني. ولوأردنا شيئا من التدقيق في فكرنا الحديث والمعاصر، لوجدنا أن المناهج السائدة منذ الحقبة الاستعمارية، حيث كان الشعور القوي بالأزمة، لم تخرج عن كونها مقاربات، كما لدى البعثات الطلابية إلى الخارج (الطهطاوي والتونسي …) والتي لا تزيد عن كونها تعكس حالة الاندهاش، وتؤسس، من حيث لا تشعر، لعقليات قابلة للاستلاب ظهرت بعدها بقليل. ثم مقارنات كما هوسائد في كثيرمن الأدبيات الفكرية والحركية المعاصرة، التي لا هم لها إلا أن تثبت تفوق سبق الإسلام إلى هذا المنجز أوذاك في عراك فكري أوسياسي. ثم محاولات توفيقية لا تعدوكونها تركيبا غير موفق لعناصر بينها من الاختلاف أكثر مما بينها من الائتلاف. كل منها ينتمي إلى منظومة فكرية ومرجعية معينة.

واعتقد أن من معالم هذا المنهاج الأساسية :

1- أن ينطلق من مصادر المعرفة في تكاملها (الوحي والعقل والواقع) حيث يتكامل عالم الغيب مع عالم الشهادة، وحيث تقرأ آيات الكون كما تقرأ آيات النص. فلا تطغى نزعة نصية على أخرى عقلية أوهذه على نزعة واقعية أوالعكس.

2- أن يستصحب قيم الهداية والرحمة واستشعار مسؤولية الاستخلاف والتعمير وحمل الأمانة والشهادة على الناس. مما يجعل المعرفة المنتجة أوالعلوم المستخلصة، شعارا للهداية والأمن والسلم والحوار والجدال بالتي هي أحسن من أجل قيم عليا تنفي عنها الأغراض والأهواء الذاتية.

3- أن ينبني على خصائص: التوحيدية، والعالمية والوسطية والإنسانية والواقعية.. تنفي عنه أشكال الانغلاق والتحيز، والغلووالتشدد، والإفراط والتفريط، والصورية والتجريد… وما إليها.

4- أن تكون له محددات: كختم النبوة والهيمنة والتصديق والوحدة البنائية للنص .. وما إليها. مما يحول دون تسرب الخرافات والشوائب والزوائد التاريخية.

ولعل التنزيل الجزئي لمعالم هذا المنهج في مصادره وقيمه وخصائصه ومحدداته على مختلف العلوم والمعارف الإسلامية، من شأنه أن يحدث تغييرات جذرية وأن يجدد فيها أصولا وفروعا بما يستجيب وتطلعات وتحديات المرحلة الراهنة في نزوعها الكوني العالمي.. وهوفي جميع الأحوال دون كونية وعالمية الرسالة.

قضايا معاصرة أمام الفكر الإسلامي

أعتقد أن من قضايا الفكر الإسلامي الراهنة والملحة بقوة أن يبدأ بشكل منتظم وفق مخطط مرحلي في دراسة إرثه التاريخي وحل مشكلاته التي ذكرنا منها والتي لم نذكر. وهذا العمل هوبحد ذاته تأهيل لهذا الفكر لمواجهة التحديات والقضايا الراهنة التي تطرحها ساحة التدافع، حيث يجد هذا الفكر نفسه محوطا، وفي كل مرحلة بشكل لا إرادي، بأوضاع لم يسهم هوفي خلقها ولا له يد في تدبيرها، وعليه أن يتكيف ويتلاءم بالسرعة المناسبة.

في زمن العولمة، المشكلات الآن كونية إنسانية تشترك فيها كل الحضارات وإن لم تسهم في صناعتها، وكل قضايا الإنسان أصبحت تصاغ وتقرر كونيا، حتى تلك التي كان يعتبرها، في بيته، من أدق خصوصياتها. ولا يمكن لحلولها أن تكون جزئية، بل في مستوى كونيتها.

إن مقولات شائعة ورائجة الآن يراد منها صوغ فكر كوني نمطي، كحوار الحضارات والثقافات وحوار الأديان، أوعكسها الذي ينذر بالصدام ينبغي للفكر الإسلامي باعتباره ممثل حضارة وثقافة ودين أن يكون له إسهام فيها، وهوالأقدر على ترشيدها.

وإن مشكلات إنسانية اجتماعية -سبقت الإشارة إليها وأخرى لم تسبق- كالفقر والبطالة والجريمة، وحقوق الإنسان والأمية، التكافل، والتفكك الأسري، وكذلك مشكلات البيئة والحروب والصحة والمعاملات المختلفة… إلخ، كل ذلك مما ينبغي أن يواكب فكريا بالتأطير التصوري العقدي وفقهيا بالحكم التطبيقي العملي.

وهذا كله يستدعي، وهومن القضايا العاجلة الآن، اجتهادا وتجديدا غير منقطع في فكرنا المعاصر بما يحقق راهنيته.

فهذه -وما في معناها- مضامين جديدة لنقل، لعلم كلام جديد، لكن وفق منظور تصوري جديد ومنهاج عملي جديد.

أقول، إذا كانت القناعة، أن الأزمة فكرية جوهرها منهجي، وأن هذا العمل يراد له أن يكون تصحيحيا جذريا لا ترقيعيا شكليا. فلابد من أن تستنفر طوائف متعددة بحسب العلوم والتخصصات للبحث في أرجاء الأمة. وأن تبدأ بمدارسة موسعة في المنهاج العام والمناهج الخاصة، حتى إذا تحقق قدر لا بأس به من التوافق، قسمت قطاعات العمل وحددت موضوعاته وفق مخططات زمنية مناسبة. وأن تتخلل هذا العمل لقاءات منتظمة للمدارسة، خاصة في الوحدة البنائية وفي النواظم العلمية والمنهجية حفاظا على العقد من الانفراط وتأكدا من صحة المسار في تكامليته وكونيته وإنسانيته وقبل ذلك إسلاميته.

الله الموفق والسلام.

————-

 

د. سعيد شبار

جامعة القاضي عياض كلية الآداب والعلوم الإنسانية -بني ملال

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>