فطرة الآنام ودين الإسلام


3- نظرة المحدثين في الفطرة

ذ. عبد القادر بنعبد الله

>  الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور

كان شيخ الإسلام الإمام الطاهر بن عاشور يؤصل لمقاصد الشريعة الإسلامية، بالتمثيل والاحتجاج لها بمباحثه الجليلة، قصد العودة إليها إذا استفحلت حجج الفرق والمذاهب حال الاختلاف بين الفقهاء عبر مختلف الأزمنة،  خصوصا إذا وقع   الالتباس، وتشابكت النوازل والوقائع،  فيكون الفصل القول في ذلك من هذا التفصيل.

ولما أسس للمقاصد حدد بصفة نهائية مصطلح لفظ التشريع، فقال رحمه الله :  (فمصطلحي إذا أطلقت لفظ التشريع،  أني لأريد به ما هوقانون للأمة،  ولا أريد به مطلق الشيء المشروع)(1)

فهويرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة، إذ لها أسرار زائدة على المعروف، تتعلق بسياسة النفس،  وإصلاح الفرد الذي به يكون صلاح المجتمع.

وقصد من كل هذا،  أن مقاصد الشريعة الإسلامية ابتنت على أوصاف، وأعظم أوصافها الفطرة.وقد استخلص معناها من الآية الكريمة 30 من سورة الروم. {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}.

وقبل أن يخوض في شرحه المسهب الرصين،  تصدى لشرح الآية الكريمة،  فقال :

إن المراد بالدين دين الإسلام لا محالة، لأن الخطاب للرسول الأكرم ،  وهومأمور بإقامة وجهه للدين المرسل به.ومعنى إقامة الوجه بالذكر، لأنه جامع القصد إليه والجد فيه. والمراد بوجهه جميع ذاته، فخص الوجه بالذكر لأنه جامع الحواس وآلات الإدراك،  و{حنيفا}حال من {وجهك}،  والحنيف : المائل. والمراد هنا الميل عن غير ذلك الدين من الشرك.قال تعالى : {حنفاء لله غير مشركين به} فدخل في هذا الخطاب جميع المسلمين باتفاق أهل التأويل.

وقوله {فطرة الله}. ففطرة منصوب على البدل من {حنيفا} المنصوب على الحال من   {الدين}.

فقوله {فطرة} في معنى حال ثانية،  والمعنى بهذا: فأقم وجهكللدين الحنيف الفطرة.  والمراد بالدين مجموع العقائد والأحكام ( أي المعاملات ).والفاء في {فأقم} أنها فاء الفصيحة لا للتفريع كما ظن البعض.لأن سياق الكلام غير مجزء،  والدين كل الدين الذي يشمل جميع ما يتدين به المرء.وهذه الفاء تأتي هنا لشرط مقدر خصوصا   وأنها بعد كلام يقصد به أمر المطلوب.وقد مهد لها بكلام من قوله تعالى : {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون}، وكأن ذلك الذي بعد الفاء نتيجة لقياس، أي توجه لدين الإسلام الذي هودين الفطرة.

ويخلص الإمام الطاهر بن عاشور إلى أن الفطرة هي جملة الدين بعقائده وشرائعه،  كما هوالأمر جار عند الأصوليين: أن الدين هومجموع العقائد والعبادات والأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم علاقة الناس بربهم وعلاقات بعضهم ببعض، حيث يقصد الشارع بذلك تثبيته في النفوس باتباع الأحكام واجتناب أفعال وأقوال نهى عنها.لهذا قال سبحانه :  {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل  منه وهوفي الآخرة من الخاسرين} لأنه أصلا دين الفطرة.

وهويميل إلى قول ابن عطية والإمام الزمخشري في الفطرة .

- يعرف ابن عطية الأندلسي الفطرة في تفسيره بأنها (الخلقة والهيأة التي في نفس الإنسان التي   هي معدة ومهيأة لأن يميز بها الله تعالى، ويستدل بها على ربه،ويعرف شرائعه).

-  ويعرف الزمخشري الفطرة في تفسيره  الكشاف للآية الكريمة 30 من سورة الروم (والمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام).

وبعد هذا التمهيد بأقوال علماء الإسلام في الفطرة، يخلص الإمام الطاهر بن عاشور إلى تعريف الفطرة ،فيقول  :

(الفطرة الخلقة: أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق.ففطرة الإنسان هي ما فطر أي خلق عليه الإنسان ظاهرا وباطنا أي جسدا وعقلا.فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية،ومحاولة أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة. واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية.والجزم بأن ما نشاهده من الأشياء هوحقائق ثابتة في نفس الأمر فطرة عقلية فإنكار السفسطائية ثبوت ذلك خلاف الفطرة العقلية.فوصف الإسلام بأنه الفطرة معناه أنه فطرة عقلية،لأن الإسلام عقائد وتشريعات، وكلها أمور  عقلية أوجارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به)(2).

ويرى أن الإسلام  {فطرة الله} أي أن الأصول التي جاء بها هي من الفطرة،  وهذه الأصول والفروع هي فضائل ذائعة مقبولة.

تحصيل الفضائل من الفطرة

يرتبط عالم الفضائل وتحصيلها عند الإنسان بنشاطه الحيوي خلال مراحل حياته،فهووإن اشترك مع الحيوان والنبات في عمليات الحياة المختلفة ،كالتنفس  والتغذية والتكاثر والإطراح فإنه يختلف عن هذين العالمين في أنه يقوم بوظائف راقية أهل لها،وبها استحق الخلافة في الأرض،قال الحق سبحانه : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}(البقرة : 30) . لأن حياته العقلية أهلته للتكليف، وبها كرم  من بين جميع الخلائق كلها سواء الحية أم غير الحية.قال تعالى : {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}(الإسراء : 70). ولأن التكليف يقتضي عقلا وعلما، ولا علم دون عقل.

فالحياة العقلية عند الإنسان نشاط مميز .حيث يبقى العقل هوالفيصل الحق في سموه عن مملكتي النبات والحيوان، فبه رتب درجات رقيه في سلم التحضر والتمدن.والعقل ليس لمجرد التفكير، وإنما لاكتساب القدرة على الترقي وإصلاح الحال،وينعكس ذلك بقوة على جانب السلوك ،ولهذا كانت فضائله كلها عقلية، وما الفضائل الأخلاقية  إلا  انعكاس لتحكيم جانب العقل فــي السلوك.

وقد ذكرت معاجم وقواميس اللغة العربية كلمة الفضيلة،  في أصلها من الفعل الثلاثي (فضل) في أنها دالة على الزيادة،فيقال  فضل  هذا على غيره،أي غلب بالفضل عليهم، وكان ذا فضل، وهوفاضل وهم فضلاء وفاضلون،وهي فاضلة وهن فاضلاتوفواضل. وفي حديث ابن  أبي الزناد : إذا عزب المال قلت فواضله. أي إذا بعدت الضيعة قل الرفق منها لصاحبها.وكذلك الإبل إذا عزبت قل انتفاع ربها بدرها.قال الشاعر :

سأبغيك مالا بالمدينة إنني

أرى عازب الأموال قلت فواضله

ذكر هذا ابن منظور في لسان العرب(3).

وفضيلة على وزن فعيلة،وهو مصدر يبنى به ما دل على الطبيعة غالبا، ملازمة للإنسان،  ويقصد بها صفات الكمال.ولما كان معناه في المعاجم ينصرف إلى عادة فعل الخير الراسخة،فقد شرعت لها المواعظ والتوجيهات ومجاهدة ورياضة النفوس للوصول إلى مرتبة السعادة، إذ بلوغ الفضائل يهذب النفوس ويكمل سعادتها.

والفضائل كثيرة ومتنوعة. والبشر على فطرتهم مدعوون إلى إدراكها وبلوغها.وقد رأى الأولون من أصحاب النظر المستنير أنها راجعة إلى أربع شعب ،سميت أنواعها أمهات الفضائل.وهي هكذا  باتفاق جميع منظري علوم الأخلاق، كما حددها الإمام الغزالي   بقوله : >الفضائل وإن كانت كثيرة فيجمعها أربع تشمل شعبها وأنواعها ،وهي : الحكمة  والشجاعة والعفة والعدالة.

فالحكمة : فضيلة القوة العقلية

والشجاعة : فضيلة القوة الغضبية.

والعفة : فضيلة القوة الشهوية.

والعدالة : عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب فيها، فبها تتم جميع الأمور، ولذلك قيل : بالعدل قامت السموات والأرض<(4).

والحكمة معظمة ، ومرغب فيها في  شريعة الإسلام.ودليل ذلك قوله تعالى : {من يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}(البقرة : 268).وقوله  : >الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها  فهوأحق بها<(5).

فحقائق العلوم والمعارف والفنون كلها من الحكمة .بل ومحبة دراستها من الفطرة.يقول الإمام الطاهر بن عاشور : (إن التاريخ فطري،لأن حديث الناس بحوادثهم سنة آدمية(6). وكذا التعليم والتعلم فطرة إنسانية. يقول كذلك : (على أن الإنسان خلق بطبعه معلما ،بمعنى أن في طبيعته حب إيصال معلوماته إلى غيره،لما فطر عليه من الـتأنس ومن الميل إلى التعبير عما يجده، وهوأصل فطرة النطق)(7).

والراجح أن تأصيل هذه المعاني راجع إلى قوله تعالى : {وعلم آدم الأسماء كلها}(البقرة : 31).

والشجاعة فضيلة القوة الغضبية،لأنها تحمي الإنسان.وهي منقادة للعقل ، مستقيمة بالشرع في كل أفعالها. وهي وسط بين رذيلتين : التهور والجبن.

والعفة فضيلة القوة الشهوية ،وتنقاد للقوة العقلية بحسب إشارتها عليها،حتى لا تكون في إفراط أوتفريط.فالإفراط الشره ،والتفريط خمود الشهوة.ومعيار اعتدالها العقلوالشرع،  وذلك مرتبط بإدراك الغاية المطلوبة من خلق الشهوة والغضب.

وأما العدالة فهي جملة الفضائل ،لأنها حالة للقوى الثلاث السابقة،بحيث يقع بينها التناغم  والانتظام تناسبيا.

والعدل معناه الترتيب المستحسن في الأخلاق والمعاملات.والحكم الذي يقوم به شأن الجماعةأوالبلد .

فالعدل في المعاملة وسط بين رذيلتين هما الغبن والتغابن،بحيث يتم إعطاء نفسه وإعطاء غيره،أما الغبن فهوأخذ ما ليس للإنسان.والتغابن إعطاء ما ليس عليه حمد ولا أجر.

والعدل في السياسة ترتيب أمور المدينة ترتيبا حسنا مناسبا ترتاح له النفوس، فيكون التواؤم والتلاؤم في الأركان الحضارية المفيدة في تحقيق الأهداف المطلوبة من الاجتماع الإنساني.إذ توضع الأشياء في مواضعها غير ضارة ولا مخلة بحقوق الحاكمينأوالمحكومين والساسة  أوالمسوسين.

ويقابل العدل رذيلة الظلم المواجه له،إذ ليس بين العدل والظلم وسط،فإما عدل وإما ظلم.ولهذا كان العدل جماع الفضائل كلها،فبه قامت السماوات والأرض، وبه أرسلت الرسل  والأنبياء.قال تعالى : {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط}(الحديد : 24)

والظلم المواجه له جماع الرذائل ،ولهذا كان  (الظلم ظلمات يوم القيامة)(8) وما دخل الظلم في أمر إلا أفسده وأشكله ، وجعل نتائجه وخيمة على النفوس في كل مناحيها ،وسبب لها الضيق والحرج،وأخرج الناس عن جادتهم.

ومن فضيلة العدل تبين لنا أن العدل دال على صحة النفس وجمالها وقوتها،ومن رذيلة الظلم تبين لنا أن الظلم دال على مرضها وقبحها وضعفها.وأن العدل من الأفعال المحمودة والجليلة التي لها قبس في الفطرة ،لأن جميع النفوس تتوق وتطمح إليها. وأن الظلم من الأفعال المذمومة والوضيعة التي هي طارئة وحاجبة للفطرة، لهذا  تنفر منها النفوس وتمجها.

——-

1- فضيلة  العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. ص : 8 و9 . تحقيق ودراسة : محمد الطاهر الميساوي.دار النفائس.الأردن. الطبعة الثانية .1421ه/ 2001 م.

2- المصدر السابق نفسه. ص : 261- 262.

3- ابن منظور . لسان العرب. المجلد :11. ص : 524- 525 . دار صادر.بيروت.

4- الإمام أبوحامد الغزالي. معارج القدس . ص : 92

5- رواه  أصحاب السنن

6- الشيخ الطاهر بن عاشور . أ ليس الصبح بقريب .ص ك 227.

7- المصدر السابق نفسه. ًص : 176

8- رواه أحمد في مسنده .رقم الحديث : 6542

ذ.عبد القادر بنعبد الله

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>