فطرة الآنام ودين الإسلام


2-  أقوال فلاسفة وعلماء الإسلام في الفطرة

بين العلماء وأصحاب النظر الفلسفي القدامى والمحدثون حقيقة الفطرة،وهم متفقون على مفهومها العام أنها ذلك النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق ظاهرا     وباطنا.ولكن وقع الخلاف في النظر إليها من حيث اختلاطها بالمدركات التي تدركها النفوس أوتعارضها،كالعوائد الفاسدة والضلالات المحرفة عن الجادة والصواب،  وهل هذه الأخيرة  لها استعداد في الفطرة ؟

نظر القدامى فــي الفطرة

> 1- رأي الشيخ الرئيس ابن سينا :

بين الشيخ الرئيس حقيقة الفطرة في كتاب النجاة،فقال : (ومعنى الفطرة أن يتوهم الإنسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو بالغ عاقل، لكنه لم يسمع رأيا ولم يعتقد مذهبا ولم يعاشر أَمَة ولم يعرف سياسة،ولكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الحالات، ثم يعرض على ذهنه شيئا ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك،فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فهوما توجبه الفطرة.وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق،بل كثير منها كاذب،إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلا.

وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كان كاذبا،وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست محسوسة بالذات، إما هي مثل مبادئ المحسوسات،كالهيولى والصورة،بل العقل نور  الباري تعالى، أوهي أعم من المحسوسات، كالوحدة والكثرة والتناهي واللا تناهي والعلة  والمعلول، وما أشبه ذلك.فإن العقل لما كان يبتدئ من مقدمات يساعده عليها الوهم،ولا يناقض في شيء منها، ولا ينازع، ثم إذا انتهى إلى نتائج مضادة لمقتضى فطرته،أخذ الوهم حينئذ في الامتناع عن تسليم الحق اللازم،فيعلم أن هذه الفطرة فاسدة،وأن السبب فيه أن هذه جبلة قوة،لا تتصور شيئا إلا على نحوالمحسوس.وهذا مثل مساعدة الوهم العقل في جميع المقدمات التي أنتجت أن من الموجودات ما ليس له وضع ولا هوفيمكان،ثم امتناعه عن التصديق،بوجود هذا الشيء.ففطرة الوهم في المحسوسات  وفي الخواص التي لها، ومن جهة ما هي محسوسة صادقة، يتبعها العقل، بل هوآلة للعقل في المحسوسات. وأما فطرتها في الأمور التي ليست بمحسوسة، لتصرفها إلى وجود  محسوس فهي فطرة  كاذبة)،  أوهي أعم من المحسوسات بل هي مبادئ للمحسوسات.فالفطرة الصادقة هي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إما شهادة الكل مثل أن العدل جميل،    وإما شهادة الأكثر،وإما شهادة العلماء أوالأفاضل منهم.وليست الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة.فما كان من الذائعات ليس بأولي عقلي ولا وهمي فإنها غير فطرية ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليه منذ الصبا،  وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان،أوشيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس،أوالاستقراء الكثير، أوكون القولفي نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا،فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق)(1).

يبدومن هذا أن الشيخ ابن سينا ينبه على معنى الفطرة،تمييزا لها عما يخالطها من المدركات الباطلة،التي تأصلت في النفس الإنسانية بسبب العواري والعوارض الفاسدة،     ودعاوى أهل الباطل والضلالات المنحرفة.

ويرى أن المأهلين لمعرفتها وتمييزها هم العلماء والحكماء،وأهل المعرفة الذين يصرفون عقولهم إلى تحقيق معناها وما يميزها عن المعتقدات الفاسدة بما يلابسها من الإحساسات والمدركات.  وأولئك هم الذين يعمقون النظر،فيكشفون اللبس الحاصل بين الأمر الفطري وغير الفطري،لأن شهادتهم مشهود لها،إذ هم أصحاب الألباب والنظر الدقيق الصائب على الغالب.

> 2- رأي شيخ الإسلام ابن تيمية :

يرى الإمام ابن تيمية أن فطرة الإنسان هي التي خلق عليها  سالما من الرعونات  وعوارض البيئات الفاسدة.فهي نقية خلقة وصافية بدءا، ويربط ذلك بالإيمان. ثم يوضح أن انصراف الكافر عن الإيمان ليس أمرا خلقيا ( أي فطريا )، وإنما هونتاج فساد البيئة، وضلال معتقداتها،فهي التي أفسدت فطرته،وحجبت عنها الحق.والانحراف والجحود لحقائق الشرع نشأ من أنفس الناس توهما،وليس من الرب سبحانه. أما مزاعم الكفار بأنهم خلقوا على ذلك الكفر فكلها كذب وافتراء.

كما يرى أن قلوبهم ليست بالصماء التي لا تصل إلى الهداية،وإنما لديها الاستعداد لتقبل الحق فذلك في الفطرة .أما الانحراف  والضلال فمن الإنسان ومجتمعه.

ويستدل على ذلك بنصوص صريحة  من القرآن .قال : إن الله  تعالى رد على الكفار  لما قالوا : {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يومنون}(البقرة : 88)  وقال سبحانه : {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم}(النساء : 155).

ثم يوضح مبينا أوضار البيئة المفسدة للفطرة: الغلف ج. أغلف،وهوالقلب ذوالغلاف الذي في غلاف،أيأن القلب محاط بأغلفة،كأنهم خلقوا عليها،وهذا ما يمنعهم من الإيمان.  ولهذا كان الرد {بل لعنهم بكفرهم} وكذلك {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}  أي كفروا باختيار، وزاغوا عن عمد.

وقال الكفار لشعيب {ما نفقه كثيرا مما تقول}(هود : 91). وقوم الرسول محمد  : {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا}(محمد : 16) ورد الله عليهم : {ولوعلم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولوأسمعهم لتولوا وهم معرضون}(الأنفال : 23) .أي لأفهمهم ما سمعوه. ثم قال : ولوأفهمهم مع حالهم هذه لتولوا وهم معرضون.لأن فطرتهم فسدت،فلم يفهموا،ولوفهموا لم يعلموا. فنفى عنهم صحة القوة العلمية والعملية،إذ قال في شأنهم : {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أويعقلون إن هم كالأنعام،بل هم أضل سبيلا}(الأنفال : 44).  وكذلك : {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء}(البقرة : 171).

ثم عقب ابن تيمية قائلا : (إن حصول دواعي الإيمان والعلم،إنما تكون وتحدث آثارها مع صحة الفطرة وسلامتها، والفساد للفطرة يتناول القوة العلمية والعملية)(2).

يستفاد مــــن شرح الإمام ابن تيمية مـا يلي :

1- إن الله تعالى لا ينشيء أقواما للنار ويصليهم فيها،وآخرين للجنة يتنعمون بها.وإنما هم محاسبون على سعيهم وعملهم وكسبهم.فمن نقى فطرته وزكى نفسه،وطهر بيئته،كان من المفلحين،ومن حجب فطرته ولوثها بما يوبقها فهومن الخاسرين.فكان السعي والعمل    والكسب مقدمات النتائج،والنتائج ما هي إلا ثمرات هذه المقدمات.وقدر الله ينفذ في الإنسان بسبب هذه المقدمات، والأمر صريح وواضح . قال الله : {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} . وقال {والذين اهتدوا زدناهم هدى}(محمد : 17).

2- يفهم من كلامه أن الغيب راصد لمستقبل الإنسان على ما يعمل من خير أوشر،وفق استعداده  وطبيعته وجهاده وتحسين وضعيته.فللإنسان اختيار واضح في صنع حياته ومستقبله إن بالقليل وإن بالكثير.فمصيره رهين بإرادته وحسب ما جنى لنفسه.

ولهذا كان التوجيه والإرشاد أفيد،لأنه يطهر الفطرة كلما علقت بها عوالق المفسدات لتعود طاهرة نقية كما كانت بدءا، تدرك الحقائق وتسعى لتحصيل الفضائل.

3-  رأي الإمام البيضاوي من تفسيره (أنوار التنزيل وأسوار التأويل) :

في سياق بيانه لمعنى الفطرة من الآية الكريمة : {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}. يقول :

(فطرة الله :خلقته،نصب على الإغراء أوالمصدر، لما دل عليه ما بعدها، التي فطر الناس عليها :خلقهم عليها،وهي قبولهم للحق، وتمكنهم  من إدراكه،أوملة الإسلام فإنهم لوخلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها، وقيل العهد المأخوذ من آدم  وذريته،لا تبديل لخلق الله:لا يقدر أحد أن يغيره،أوما ينبغي أن يغير،ذلك : للإشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أوالفطرة إن فسرت بالملة)(3).

يستفاد من كلام الإمام البيضاوي :

أ- أن الفطرة هي ما خلق الله تعالى عليه الإنسان من ملة الإسلام،بحيث رسخها في نفسه،يدرك عقائدها وتشريعاتها وحكمتها بيسر وسهولة، لأنها صادرة  عنها.

ب-  وأنها العهد المأخوذ من آدم وذريته بالإشهاد لله تعالى  بالربوبية والألوهية،دون تبديل أوتغيير في هذا العهد، أي الثبات على دين الإسلام. وهذا من قوله تعالى في سورة الأعراف الآية : 172  : {وإذ  أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}.

——–

1- ابن سينا.كتاب النجاة.ص :99.دار الآفاق الجديدة.بيروت.تحقيق ماجد فخري. الطبعة الأولى.1405هـ / 1985م.

2- الشيخ ابن تيمية .كتاب  الإيمان .

3- تفسير  البيضاوي. : أنوار التنزيل وأسرار التأويل.المجلد :2. ص : 220 .دار الكتب العلمية.بيروت.1408ه/ 1988م.

ذ. عبد القادر بنعبد الله

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>