رمضان شهر التكريم والتحرير بامتياز


إذا كان الله تعالى منزَّهاً عن العبث واللهو واللعب بحيث نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول في خلق الكون (وما خلقنا السماواتِ والارضَ وما بينهما لاعبين)(الزخرف : 27) ويقول في خلق الإنسان {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}(المومنون : 114) مما يعطي الدليل على أن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء لحكمة، فهِمها من فهمها، وجهِلها من جهِلها.

وإذا كان الله تعالى منزها عن العبث فالإنسانُ العاقلُ كذلك منزهٌ عن العبث، أمَّا الإنسان السفيه الذي لا يقدِّر مسؤوليته، ولا يفهم قدْره ووظيفته فهو الذي يجعل من حياته شبحاً لا روح فيه، أو رقماً بدون معنىً، أو صفراً على اليسار، ولذلك فهو يقتُل نفسه باللهو واللعب ظاناً منه أن ذلك هو الطريق الصحيح للتمتع بالملذات، بينما هو يبحث عن حتفه بظِلفه. إنهم {الذِين اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيا}(الأعراف : 50) ولسَفَهِ هذا الصنف الميؤوس من رشده قال الله عز وجل في حقه مهدِّداً ومستهزئاً بجراءته وكفره الغليظ {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ}(المعارج : 41) وإذا كان الله عز وجل خلق كلَّ شيء بحكمة ولحكمة فإن الله عز وجل -أيضا- كَرَّمَ الإنسان بحكمة ولحكمة لأنه :

1- خلقه وأناط به تعمير الكون، ولا عُمران للكون بدون إنسان عاقل رشيد.

2- جعله حُرَّ الإرادة في تصرفاته وتقرير مصيره الدنيوي والأخروي بدون ضغط أو إكراه.

3- جعله مسؤولا عن تصرفاته ثوابا وعقاباً، لأن المسؤولية قمة التشريف والتكريم

4- أنزل له منهاج السير في الحياة، وأرسل له الرسل يقودون مسيرته، ويدرِّبونه على كيفية اختيار الرأي الأقوم، والسبيل الأرشد إذا احتار وارتاب وعمِيَتْ عليه النُّصب والمنارات عن طريق اسْتِلْهَامالمدَد الرباني والوحْي النوراني.

5- وجعلهُ متفاضلاً بالأخلاق المزكِّية للإنسان بدون اعتبار للدماء والأطيان والألوان، حتى يعلُوَ ذكره في الصالحات ولا يسفل مقامه في الطالحات.

6- وفرض عليه شعائر عباديَّةً تُعلي من شأنه وتصقِل تحرُّره من كل تبعيَّةٍ فكريّة للسادة المسلطين على الرقاب، أو تقليدية للآباء والأجداد والمشايخ، أو إرضائية للمتألهين من بني البشر الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضراً. فالصلاة لذكر الله تعالى، والزكاة لشكر الله عز وجل، والإخلاصُ في الصلاة والزكاة والحج وحبِّ الدين وربِّ الدين هو لتخليص النفس من كل شائبة الارتباط بغير الله تعالى، والجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى، والصدقُ في الأخوة هو لبناء الأمة المعتصمة بحبل الله المتين، الناهضة برسالة الله المُنجية من الهلاك للناس أجمعين.

وفي سياق الإخلاص والتكريم والتحرُّر كان رمضان شهر التكريم والتحرر بامتياز، لأنه الشعيرة الخالية من كل المظاهر المحسوسة، ولذلك استعصتْ على النفاق، فالإنسان يمكن أن يصلي نفاقا، ويزكي ويتصدق نفاقا، ويحج ويعتمر نفاقا، ويجاهد ويقرأ القرآن نفاقا، ولكن يصعب أن يصوم نفاقاً، فالصوم هو الشعيرة الواضحة الانتساب لله رب العالمين، ولذلك كان الحديث القدسي مبرزاً لهذه الخاصية بجلاء. قال  : >قال الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به<(رواه الخمسة) وفي رواية : >كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي<.

فلماذا نجد المسلمين رغم العقيدة المرتكزة على الحرية، ورغم العبادات التي تغرس في نفوسهم نسائم التحرر من كل قيود شهوات المال المذلة، وشهوات المرأة المهلكة، وشهوات التملق المزرية بكرامة الإنسان… نجدهم يتهالكون على إعطاء الدنية في دينهم وأعراضهم وأموالهم وأوطانهم؟!

يظهر أن سني الحكم الجبري المفروض على الأمة منذ قرون قد راضهم على الخضوع والخنوع لغير الله حتى أفقدهم الشعور بلذة الحرية في كنف طاعة الله عز وجل وحده، فَوَاأمُوا بين الخضوع لله تعالى والخضوع للبشر المتكبر، وما دَرَوْا أن ذلك جوهَرُ الشرك الذي أصاب الأمة بالكساح، وجعلها مهيأة لقبول الاستعمار، ومرتعا لتفريخ الكفر، والتهليل لكل مظاهر الفساد وأسباب التناحر والتطاحن، والإرجاف بكل دعوات الوحْدة والتآلف على حُبّ الله تعالى، وحب الرسول، وحب العمل بكتاب الله تعالى.

فهل تصحو الأمة في هذا الشهر الكريم، وتتنادى من شرقها لغربها، ومن شمالها لجنوبها، حكاما ومحكومين، شعوبا ودولا، تعالوا : {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله}(آل عمران : 64)؟.

آنذاك تكون الأمة قد بدأت تصحو من رقاد السنين، وذل العابثين!!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>