إن الأمة الإسلامية وحْدَها من دون أُمَمِ الدنيا تمْلكُ وعداً من الله تعالى بالاستخلاف والتمكين لدينها، تمكيناً مِلْؤُه الأمن والاطمئنان، وملؤه العَدْل والرَّفاهُ الاقتصادي والاجتماعي، وملؤه حُسْن التدبير السياسي، وحُسْنُ الحسم التشريعي والاجتهادي والقضائي. هذا الوعْدُ المفتوح على الزمان والمكان هو الذي قال فيه تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الارْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ بَعْدَ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}(النور : 50).
الوعْدُ الذِي تضمنتْه الآية هو وَعْدٌ صريح لا لَبْسَ فيه ولا غموض، لكن العجب العُجاب أن تجد الأمة التي تملك هذا النص الفريد العجيب هي أكثر الأُمَمِ ضياعا وتشتتا وتيهاناً إلى درجة نِسْيَان القِبْلة وتضييعها، حيث البعض يصلي جهة البيت الأبيض، والبعض يصلي جهة البيت الأسود، والبعض يصلي جهة البيت الأحمر،… إلى غير ذلك من مختلِف المتَّجهاتِ ذات الألوان البشرية. بينما المُتَّجَهُ للأمة الموعودة بالتمكن هو محصور في :
1- {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} أي كُلُّ إشراكٍ صغر أم كبر مُفْسِدٌ لِلْوَعْدِ مُخِلٌّ بتحقّقه، فالله عز وجَلَّ لاَ يَقْبَلُ شريكاً لأنه كاملُ القُدرة والقوة والعزة، نواصي كل زعماء النظام العالمي بيديه وتحت أمره وإرادته، ونواصي كل متجبر متسلط سواء قديماً أم حديثا هي في قبضته.
فإلى أين تهرول الأمة المشتتة الاتجاه عندما تتأزم أمورها وتشتد كرباتها؟؟ تتجه إلى كل الأصنام، وتستجير بكل الأزلام؟؟ وأنّى للأزلام البشرية أن تحل مشاكل الأمة المحسودة؟
ذلك هو الخلل الأوَّل الواقف في طريق التمكن والتمكين، طريق القوة والعزة، طريق التوحُّد وجمع الشمل, طريق تكوين الكيان وفرْضِ الشخصية في كل الميادين.
2- أما المتجه الثاني فهو محصور في رِضَا الأمة بالدين الذي ارتضاه الله تعالى {وليمكِّنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم} هذا الدين الذي ارتضاه الله تعالى لهم هو الدين الذي امْتَنَّ الله به على الأمة وعَدَّه من أكبرالنِّعم المغدقة عليها : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(المائدة)
فهل الأمة مازالَتْ تُحِبُّ دينها حُبّاً ليس له شريك لا من سلطة ولا من مال ولا سياسة ولا شهوة كيفما كان نوعها؟؟.
ذلك هو الخلل الثاني الكبير، حيث أصبح الحب للدين باهتا يأتي -عند التصنيف- في آخِرِ آخر قائمة المحبوبات، فكيف يُمكِّنُ الله تعالى لأمة تكْذب في تدينها، أو تغُش في تديّنها، أو تنافق في انتسابها لدينها؟؟
تلك بعض المعاني الإيمانية العميقة التي ينبغي أن يراجع المسلمون فيها حساباتهم مع ربهم في كل وقت وفي رمضان بالأخص عَلَّهم يسترجعون ثقتهم بربهم وبدينهم وبأمتهم وبرسالتهم. لقد ثبت أن رسول الله أمر عبد الله بن مسعود ] أن يقرأ عليه شيئا من القرآن، وعندما وصل إلى قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيداً}(النساء : 40) قال له : حَسْبُك, وعندما نظر إليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وجد عينيه تذرفان الدّموع.
فلماذا كان يبكي؟؟ ألِأَنَّهُ لَمْ يُبلِّغ؟؟ إلأنه قَعَدَ بعد أن قال الله تعالى له (قم فأنذر)؟؟ ألأنه قَصَّر في التهجُّد بعد أن قال الله تعالى له : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}؟؟ ألأنه حكم بغير مَا أنزل الله بعد أن قال الله تعالى له : {وَأَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أَنزَلَ الله}؟؟ كَلاَّ، كُلُّ ذلك أو بعضٌ منه لم يَقَعْ. ولكن إعظام المسؤولية واستصغار الطاقة الكافية لذلك هو مصدر الدَّمع النبوي الشريف..
فهل نتفاعل نحن مع القرآن العظيم ونبكي عندما نقرأ قول الله تعالى {فاسْتَقِمْ كما أُمِرْت}، {قَدَ اَفْلَحَ المومنُون الذين هم في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فهل نبكي على الاستقامة المضيَّعَة؟؟ والفلاح المضيَّع؟؟ والعَدْل الضائع المضيَّع؟.
وهل تنْدَى عُيوننا عندما نقرأ قول الله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُم أمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ} ونسأل أنفسنا كيف نَلْقى رَبَّنَا ونحنُ نَجِدُّ في كل شيء، ونهتم بكل شيء إلا في الدّعوة لدين الله تعالى؟؟ وكيف سنلقى نبيّنا وقد ائْتَمَنَنَاعلى إرْثِه الرسالي؟؟ وماذا سنقول للأمم التي ستُجَرُّ للنار جَرّاً فتشتكي إلى ربها بأن أمة محمد اخْتَزَنَتْ نعمة الإسلام وأقْفَلَتْ عليها صناديق الجهل والهَوى، فلا هي انتفعت بها ولا هي عرضتْها علينا لننتفع بها؟؟ هل فكَّرنا في هذا؟ وهل حاسبنا أنفسنا على التقصير في هذا؟ وهَلْ تواصيْنا بهذا؟ يظهر أن الأمْرَ أَصبحَ لا يَعْني إلا أقلَّ القليل من الأمة المطحونة والمرفوسة بالأقدام الغليظة للعولمة الكفرية السائدة.
إلا أن الأمل في الله تعالى قويٌّ في أن يجعل هذا الشهر الكريم شهر التجدد الإيماني، وشهر التفاعل مع القرآن العظيم، وأن يجعل هذا الشهر الكريم شهر التجديد للدَّعوة وشهر التجديد للخطاب الإيماني، وشهر التجديد للفهم العميق لمقاصد القرآن، ومقاصد الرسالة، ومقاصد الصيام الخاشع. فإن الصيام أعظم مدرسة لتخريج الربانيين المحوِّلين لوجه التاريخ.