الحاجة إلى فقه الواقع


لقد كتب علماؤنا الأقدمون في الفقه، ونحن نعيش في بلاد مسلمة ذات أغلبية تدين بالإسلام، وحكوماتها تقر بهذا الدين. أما اليوم، فهناك عشرات الملايين من المسلمين يعيشون كأقليات في ديار غربية وشرقية، وما نعتبره بديهياً في بلاد المسلمين، قد لا يكون كذلك في غيرها.

استقر هؤلاء المسلمون في أوروبا والأمركيتين وغيرها وأصبحت لهم وطناً، وهم لا يحتاجون إلى من يترجم لهم ما كتبه علماؤنا وأفتوا به في بلاد المسلمين، ولكن يحتاجون إلى من يفهم فقه واقعهم، ويفتي بما يناسب هذا الواقع من كتاب الله وسنة نبيه . إن قيام بعض ذوي النيات الحسنة من المحسنين بترجمة فتاوى بعض العلماء في بلاد العرب مما لا يناسب الواقع في غيرها، ولا يتفق مع أولويات المجتمعات الأخرى، ولا مع مصالح الإسلام فيها، قد تسبب في زيادة العداء للإسلام، وتعطيل الدعوة بين الناس هناك.

فأي مصلحة تكون فيترجمة فتوى لعالم خليجي أفتى بأن النصراني يجب أن يستتاب مرتين ثم يقتل في الثالثة إذا لم يُسلم، وتوزع هذه الفتوى المترجمة في ديار الغرب؟ ثم اسألوا أولئك الذين جاؤوا إلى شمال مدغشقر للدعوة، فأثاروا فيها فتنة كبرى حول الاحتفال بالمولد النبوي، وتركوا قضية عبادة المسلمين للأحجار والأشجار، فبدأت المعارك بين أنصار الاحتفال وبين معارضيه، وطبعت فتاوى هذا الشيخ أو ذاك بعدما ترجمت على ورق صقيل، والنتيجة أنه تم طرد هؤلاء الإخوة بعد إنفاق مئات الألوف من الدولارات دون أي أثر لها الآن! بل أكثر من ذلك أننا كدنا، نحن الذين نعمل منذ سنوات طويلة، نطرد بسببهم رغم أننا بعيدون جغرافيا وإداريا وفكريا عنهم مئات الكيلومترات.

إن الأقليات المسلمة بحاجة إلى من يفتي لها من الكتاب والسنة حسب وضعها، وهنا أرجو أن لا يقال عني إنني أدعو إلى دين جديد، بل أدعو إلى ما دعا إليه الإمام الشافعي عندما أفتى في العراق، ثم أفتى بغير ذلك في مصر، لأنه وجد أن الواقع قد تغير، والمصالح قد تغيّرت.

وقبله أفتى عمر بن الخطاب ] في مسألة، وأعيدت عليه نفس المسألة بعد سنة فأفتى بغير جوابه الأول، وقال : “أفتينا بما علمنا ونفتي بما نعلم”.

وليت شعري، أين نحن من القول المأثور : “حيثما كانت المصلحة، فثم شرع الله” وأين نحن من مقاصد الشريعة الخمسة وهي حفظ الدين والنفس والعرض والمال والعقل؟!

أيها المسلمون، الله الله في إخوانكم المسلمين في المهجر! كونوا عوناً لهم، ولا تكونوا عوناً عليهم بنقل مشاكلكم إليهم، فلهم خصوصياتهم ومشاكلهم وأولوياتهم التي يطلبون من علمائنا أن يحلوها لهم ويفتوهم بها بعد أن يعرف علماؤنا كيف يعيش هؤلاء.

د. عبد الرحمن السميط

مجلة الكوثر ع 71، شتنبر 2005

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>