غلاء المهور أحد أسباب العنوسة والفساد
بما أن الصداقَ جعلَهُ الله تعالى نِحْلَةً أيْ عطيةً وهِبةً تكريما للمرأة ورَفعاً لقَدْرها… فإن الله تعالى لَمْ يُحَدِّدْهُ لا قِلَّةً ولا كثرةً، فمن حيث القلةُ قال : “التمس ولَوْ خاتماً من حَدِيد” ومن حيث الكثرةُ قال تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُمْ اسْتِبْدَالَ زوج مَكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أتَاخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}(النساء :205).
فقد دلت الآية على جواز المُغَالَاةِ في المهور، لأن الله تعالى لا يُمَثِّلُ إلا بالمباح الجائر، وقال بعض العلماء : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال : وأتَيْتُمْ هذا القدر الذي لا يوتيه أحَدٌ. وهذا كقوله : “مَنْ بَنَى لِلهِ مَسْجِداً وَلَوْ كَمِفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ”(1)، ومعلوم أنه لا يكون مسجدٌ كمفحص قطاة(2)
وإن كان القنطارُ : يُمكن أن يُعطى مَهْراً فإن ذلك ليس هو الغالب وليس هو المنهج الإسلامي الذي سار عليه رسول الله وسار عليه الصحابة والتابعون، وتعاملت به المجتمعات الإسلامية في مختلِفِ العصور. قال لابْنٍ أبي حَدْرَدٍ -وقد جاء يستعينه في مهره- فسأل عنه، فقال : “مائتَيْن” فغضب رسول الله وقال : “كَأَنَّكُمْ تَقْطَعُونَ الذَّهَبَ والفٍضَّةَ مِنْ عُرْضِ الحَرَّةِ أَوْ جَبَلٍ”(3)
وأرشد إلى يسر المهور وعدم التغالي فيها في أحاديث أخرى كثيرة منها ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أنه قال : “إٍنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا”
فهلْ يَعي أولياء الأمور الذين يَرَوْنَ في رَفْعِ المُهور ضماناً لبناتهم أن الذي يكره زوجته ويُريد طلاقها لا يمكن أن تقف في وجهه مشكلة المال، وهل يعي المجتمع الغافل الغارق في مشاكل العنوسة والعزوبة، ومشاكل الفساد مع اللَّواتي جعلْن من أجْسادهن سِلعة للبيع والشراء بعد أن عَجَزْنَ عن وُجود بيت كريم ورجل عفيف يوفِّرُ لَهُن السَّكَن والاستقرار؟! فارتمَيْن في أحضان الرذيلة انتقاماً من النفس، ومن المجتمع, ومن الرجال السفلة, ومن النساء الأنانيَّات، ومن الظروف التعسَة المنسوجة بأيْدٍ أجنبية؟! وليس الصداقُ المرتفِع السبَبَ الرئيس ولكنه أحَدُ الأسباب المعوقة للزواج، أو المؤخرة له على الأقل.
وكَمْ كان عمر ] حكيماً وحريصا علي مصلحة الأمة عندما أدرك بثاقب فكره وبُعْد نظره ما يمكن أن يهدِّد المجتمع من المخاطر والشرور بسبب المغالاة في المهور، فقد جاء عنه ] أنه قال : “أَلَا لَا تُغَالُوا صَدُقَاتِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنِيَا، أَوْ تَقْوَى عنْدَ الله، لَكَانَ أَوْلَاكُم بها نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا عَلِمْنَا رَسُولَ اللَّهِ نَكَحَ شَيْئاً مِن نِسَائِهِ، وَ لَا أَنْكَحَ شَيْئاً مِن بَنَاتِهِ عَلَى أَكْثَرَ مِن ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيةً”(4) فقد ركز عمر ] على التوهُّم الذي يترسَّخ في بعض العقول الطينية المتحجرة من أن المهر الغالي مَكْرُمَة للمرأة، ومفخرة للعائلة، مع أنه في الإسلام أمْرٌ رَمْزِيٌّ يُكَرِّمُ المَرْأَةَ معنويّاً أكثر من قيمته المادية(5)
إن الله تعهَّد للمُقْدِمين على الزواج استعفافاً وعبادة وتقربا إلى الله تعالى بأن يغنيهم من فضله إن كانوا فقراء، فالفقر في المجتمع الإسلامي لا ينبغي أن يكون معوقا عن الزواج، قال :”ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُفي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّاكِحُ يَرِيدُ الْعَفَافَ، والمُكَاتَبُ يَرِيدُ الْأَدَاءَ”الترمذي والنسائي, وابن ماجة-
وإذا كان الكثير من الناعقين والناعقات يرفعون أصواتهم مُدَّعين أنهم يدافعون عن حقوق المرأة وكرامتها… فإن هؤلاء أكثر إسرافا وتبذيراً سواءٌ في الخطبة، أو في العقد، أو في الدخول. حيث ينفقون الملايين التي تستطيع تأسيس بيوت لو أنفقت في سبيل الله تزويجا للفقراء والفقيرات ولكن تَحَكُّمَ النزعة المادية في الزواج وغيره أفسد الروح الإسلامية
———-
(1)القطاة : الحجَلة، ومفحصها : عُشُّها الذي تبيض فيه
(2)انظر التفسير المنير لـ د :وهبة الرحيلي 4/306
(3)المرجع السابق، والحَرَّة : أرض ذات حجارة نخرة سوداء
(4)أخرجهُ الترمذي، وقال : هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه النسائي وأبو داود، وابن ماجة وأحمد, وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص : 307، وكتاب “نظرات في الأسرة المسلمة” ل : د: محمد لطفي الصباغ 48
إلا أن هذا الأمر العُمَري صاحبتْه قصَّة المرأة التي رَدَّت عَلَيْه فقالت : “يُعْطِينَا اللهُ وتَحْرِمُنَا أَلَيْسَ اللهُ سبحانه وتعالى يقول “وَآتَيْتُمُ إِحْدَاهُن قِنْطَاراً فَلَا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً “، فقال عمر : أصابتْ امرأة وأخطأ عمر.التفسير المنير4/306 هذه القصة قال فيها ابن حجر في الفتح : ضعيفة انظر “الدُّرر المنتثرة” وانظر “نظرات في الأسرة المسلمة”48.قال الدكتور محمد الصباغ :
“من المؤسف أن هذه القصة استُغِلَّت استغلالا سيئا في وجه كل دعوة إصلاحية تدعو إلى معالجة الوضع الشاذ”ص48. مع أن الأمْر المعروف عن عمر ] أن كان يجتهد في كل ما يجلب للمسلمين مصلحة اجتماعية، ألم يجتهِدْ في مَنْع المؤلفة قلوبهم من نصيبهم بعد أن اشتد عود الأسلام؟ألم يعزم على حذيفة بن اليمان بأن يُسَرٍّح اليهودية التي تزوج بها حتى لا تبور النساء المسلمات؟ألم يمتنع عن قسمة سواد العراق على الفاتحين حفظا لمصلحة المسلمين في استمرار الجهاد، واستمرار حفظ الثغور؟ ثم إنه ] لم يحرم المغالاة، وإنما نبّه إلى ضرر المغالاة، فلا هي مكرُمة في الدنيا، ولا هي تقوى تجلب الفوز في الآخرة. وما فسدت المجتمعات الإسلامية إلا عندما أصبحت نساء أمرائها يُجَهَّزْن بأحْمَال من الذهب تتعدى القنطار، كبُوران زوجة المامون العباسي، وزبيدة زوجة الرشيد، وغيرهما
(5) ذكر الدكتور محمد بن لطفي الصباغ قصة لطيفة لأب في مسألة الصداق : خطَب رجل صالح بنت أحد الآباء الصالحين، فقبِل، وعندما أجدى الخاطب استعداده لدَفع مبلغ معقول معتدل مَهْراً، رفض الأب، هذا المبلغ، فظن الخاطب أنه استقل المبلغ، ولكن الأب قال له : هذا المبلغ كبير، وأنه يرضى بنصفه وقال له -مفسّرا رفضه- : يا بني إن المرأة إنسان كريم لا يباع ولا يشترى، وأنا يا بني عندي عدة بنات فإذا تسامع الناس الطيبون المقلون بهذا الماهر ابتعدوا عنه ولم يأت إلا الموسرون، وربما كان فيهم مَن لا أَرْضَاه زوجاً لابنتي” نظرات في الأسرة المسلمة 49.
ذ.المفضل الفلواتي