من هموم الإنسان في الخطاب الأدبي للنورسي


مركز كوبرو ( الجسر) للدراسات  -استانبول

الشفقة والمحبة

الشفقة والمحبة واحد من أركان دعوة النورسي في إنشاء الصرح الفكري الشامخ وفي مراقي السلوك إلى معرفة الله تعالى عند الإنسان. فهو يدعو إلى شهود الشفقة والمحبة الغامرة في الكائنات المتدفقة بحوراً من معين الودود الرؤوف الرحمن الرحيم، لتفيض في الإنسان، فتوثق عراة بالأشياء كلها بعروة المحبة والشفقة. الإنسان في تطوره إلى الكمال لا بد أن يفيض بالمحبة والشفقة في كل أحواله. فالإسلام بنبعه، والإنسان بفطرته وطبعه تقتضيان المحبة. وكما في المباحث الأخرى، نجد تحليلاً متسلسلا لمفهوم المحبة والشفقة من الجذر إلى الغض فالوريقة وهنا نقتطف لمناسبة المقال قطوفاً من الرسائل فيها خطاب أدبي، فنحلق معها إلى فضاء المحبة والشفقة.

“الإنسان ثمرة شجرة الخلقة.. والثمرة تكون أكمل الأجزاء، وأبعدها عن الجرثوم وأجمعها لخصائص الكل! وهي التي تبقى ونستبقى وأنه لا بد في الثمرة من نواة، تشتمل بالقوة على لوازمات شجرة مثل أصلها! واصغرية النواة لا تنافي أعظمية الشجرة! كنواة شجرة التينة. وأن في الإنسان حبة: لو كان الإنسان ثمرة، لكانت تلك الحبةُ نواته! ألا وهي القلب”(1)  القلب العامر المعمور بالحب والشفقة بأوسع معنى وأرحب أفق. فيض من حب غامر يستلزم شفقة مثله، هما من جزء من ألف ألف جزء جزء من تجليات أسم الودود على الرحمن الرحيم على مرآة قلب الثمرة اليانعة لشجرة الكائنات. فتراه يحب المصنوعات من بحب الصانع، ويحب ذاته بفيض التجليات، ويتوق إلى الكمال والجمال، ويتعلق بالأهل والعيال، والخفاف والثقال. فإذا فاضت ذرة من هذه المحبة والشفقة، أغرقت حتى العقل الطموح المتطاول إلى الإحاطة بالعالم والنفوذ إلى الخارج فـ “أكبر فلاسفة الأرض عقلاً يغرق في قطرة ألم، ويفنى في ذرة محبة”(2) ولكن، حذار أن يطيش الحب عن المحبوب، أو يختلط عليه المقصود:” يا قلبي: إن الأبله الذي لا يعرف الشمس إذا رأى في مرآةٍ تمثال شمسٍ، لا يحب إلا المرآة: ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس!.

وإذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة، ولا تفنى بانكسارها، توجه بتمام محبته إلى الشمس. إذ ما يشاهد في المرآة ليس بقائم بها، بل هو قيومها! وبقاؤه ليس بها، بل بنفسه! بل بقاءُ حيوية المرآة وتلألؤها إنما هو ببقاء تجليات الشمس ومقابلتها، إذ هو قيومها!

يا هذا، قلبك وهويتُك مرآة. فما فطرتك من حب البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها. فقل: يا باقي أنت الباقي. فإذا أنت “باقي” فليفعل الفناء بنا ما يشاء! فلا نبالي بما نلاقي!”(3) وهكذا كل تجل لأسم من الأسماء الحسنى، وكل تعلق بشئ تابع لتجلٍ، مرده الصرف إلى مثال الشمس في المرآة. التوجه إلى عشق المرآة بلاهة وقصور، ما دامت الشمس ساطعة. وأرجع أن شئت الاستزادة إلى بياناته حول {إني لا أحب الآفلين}. وإذا كان نفسك أحب إليك، لأنها أقربُ إليك من كل شئ، فلا بد أن يكون ربك أحب إليك منك، إذ هو أقرب إليك من نفسك. ألا ترى أن ما لا يصل اختيارك وخيالك إليه من أسرار ما رُكّب فيك، هو حاضرٌ مشاهدٌ لربك(4).

“لقد جُبل هذا الإنسان على محبة غير متناهية لخالق الكون. ذلك لأن الفطرة البشرية تَكِنّ حبا للجمال، وودا للكمال، وافتنانا بالإحسان. وتتزايد المحبة بحسب درجات الجمال والكمال والإحسان، حتى تصل إلى درجات العشق وأرحبه”(5).

وأن “أسباب العداء ليست إلا كحصيات صغيرة. فالذي يتغلب العداوة فيه على المحبة، يقع في حمق عظيم، كمن يستصغر جبل أحد، ويبخس ثمنه بأدنى حصاة. العداء والمحبة لا تجتمعان البتة، كالنور والظلام. أن غلبة العداء تجعل المحبة تصنعاً ومداراة! وغلبة المحبة تجعل العداء ترحماً واشفاتاً ورقةقلب. ألا أن مذهبي هو بذل الحب للمحبة، والتخاصم للعداوة.وأن أحب شئ إلى نفسي في الدنيا هو المحبة، وأبعض شئ عندي هو العداء والخصا(6).

النورسي أهل حقاً لأن يصرح بأن أجدر شئ بالمحبة عنده هو المحبة، وأجدر شئ بالبغض والخصام، هو البغض والخصام، حتى أنه يرجع نوعاً من الآلام والمصائب إلى غياب الشفقة والمحبة:” فالصبي الذي يمزق للتهوس والتلهي نحلة مسكينة، ولم يسمع نهي حس شفقته الحساسة، فأصيب بأن انكسر رأسه، استحق! أن النمرة تحس في نفسها على شبلها شفقة شديدة، ومع رفيقها حسّ حماية، فلا يمنعها هذان الحِسان من تمزيق الظبية المسكينة فمزقتها، ثم أصيبت ببندقية الصياد مثلاً، أفلا تكون مستحقة؟ إذ رزقها الحلال أموات الحيوانات لا أحباؤها. على أن هذا مبني على توهم مالكية الحيوانات للأنفسها!”(7) ولنقف قليلاً عند هذا الحس المرهف للنورسي، ورقة مشاعرة، ودقيق تمييزه للمعاني، خصوصاً في إشارته إلى توهم مالكية الحيوانات لأنفسها!

ألا “أن العندليب المشهور بالعشق للورد خطيب رباني من طرف الحيوانات -التي هي ضيوف الرحمن- وموظفٌ لإعلان السرور بهدايا رازقها، ولإظهاره حسن الاستقبال للنباتات المرسلة لإمداد أبناء جنسه، ولبيان احتياج نوعه، ذلك الاحتياج إلى درجة العشق، على رؤوس جميلات النباتات، ولتقديم الطف شكر، في ألطف وجه، لجناب مالك الملك ذي الجلال والجمال والإكرام. فهذه غاية عمله بحسابه سبحانه. فهو يتكلم بلسانه، فنفهم هذه المعاني منه، وان لم يعرف هو معنى نغماته بتمامها”(8).

فلنستمع إلى تغريد بلابل الحب والشفقة في الكائنات، ولنغرد مع العندليب، ولنطرب مع معنى نغماته، ولننشد بنغماتنا أناشيد الحب الأزلي!.

——

1 – النورسي/ المثنوي/ حبة/ المصدر السابق/ ص 219-220

2 – النورسي/ المثنوي/ حبة/ المصدر السابق/ ص 225 مع الهامش.

3 – النورسي/ المثنوي/ زهرة/ المصدرالسابق/ ص 263

4 – النورسي/ المثنوي/ ذيل الشعلة/ المصدر السابق/ ص 416

5 – النورسي/ اللمعات/ المصدر السابق/ ص 90

6 – المثنوي/ صيقل الإسلام/ ص 423

7 – النورسي/ المثنوي/ قطرة/ ص 163

8 – النورسي/ المثنوي/ نور من أنوار نجوم القرآن/ المصدر السابق/ ص 478

عوني لطفي اوغلو

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>