العلم الحقيقي هو : أن يعرف الإنسان قَدْرَه في هذه الحياة، وفي هذا الكون، فيعرف كيف يَحْيى حياة منسجمة مع محيطه، يستفيد من محيطه الكوني وينتفع به شاكراً من سخَّره لَهُ وجعله في خدمته حتى لا ينقلب الكون حرْباً عليه برياحه وعواصفه وصواعقه وأمراضه وجراثيمه وحرارته وبرودته وزلازله إلى غير ذلك من أنواع الحروب التي لا قِبَل للإنسان بدفعها، والتوقّي منها إلا بشيء واحِدٍ هو أن يعرف الإنسان قدْره مهما اكتشف من أسرار هذا الكون، معترفاً بأنه إن عَلِمَ شيئا غابتْ عَنْهُ أشياء. {وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلاً}(الإسراء) ومعترفاً بأن الفضل كله في اكتشاف قليل القليل من أسرار الكون وألغازه يرجع إلى واهب العلم وواهب أسبابه ووسائله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِن بُطُون أمَّهاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيئاً وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَوالاَبْصَارَ والافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل : 77) وإلا كان الإنسان جاهلاً لأنه ناكرٌ للجميل، غَيْرُ معترف بالفضل لصاحب الفضل، مَثَلهُ مثل الأعمى الذي لا يبصر شيئا، ومثل الأصمِّ الذي لا يسمع شيئا، ومثل المطبوع على قلبه لا يفقه شيئا {لهُم قُلوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها ولهُمْ أعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بها ولَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هم الْغَافِلُونَ}(الأعراف : 178) فهؤلاء لهم من الإنسانية صورة الإنسان، أمَّأ حقيقتهم فهُمْ أَحَطُّ من الحيوان، فإنسانيتُهم ممسوخة مرذولة ممقوتة لا يبالي بهم رَبُّ الكون، وصاحب الفضل الحقيقي في أي وَادٍ يهلكون، وفي أي جحيم يخلدون علمُهم هو الجَهْلُ الحقيقي، لا يعرفون {لئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}(ابراهيم : 7) اكتسبواشيئا من لعاعات الدنيا فظنُّوا أنهم امتلكوا الكون بما فيه ومن فيه, وظنوا أنهم يستطيعون أن يتحكموا في كل شيء, وهم لا يستطيعون أن يتحكموا حتى في بَوْلِهِم وغائطهم، فما بالك بفَرَحِهم وحزنهم ونَوْمِهِم وجوعهم وظمَإهم، بل لا يستطيعون أن يتحكموا في خوفهم عندما يرون الخطر محدقا بهم؟!
إنه الغرور الذي يُكْسِبُ الإنسان كِبْراً على كِبْر حتى يقوده هذا الغرور إلى مصارع المتكبرين {لاَ يَغُرَّنَّكَ تقلُّبُ الذِينَ كَفَروا في البلادِ متاعٌ قليلٌ ثمَّ مَأْواهُمْ جهَنَّمُ وَبِيسَ المِهَادُ}(آل عمران) عِلْمُ معرفة الإنسان قَدْرَهُ هو العلم الشاكر الذي به يَسْتحق الإنسان الاستخلاف في مُلك الله تعالى عن جدارة واستحقاق. وهو العلم الذي يجعل الكون كله في خدمة الإنسان الشاكر، وهو العلم الذي يجعل الملائكة مسخرين للاستغفار لهذا الإنسان بل جنوداً له يدفعون عنه الأخطار، ويحفظونه بالليلوالنهار، إنه العلم الذي يجلُبُ رضا الرحمان في الملأَيْن الأعلى والأسفل، ويخط للإنسان مُسْتَقْبَلَهُ السعيد في عوالم الغيب والشهادة.
ولِعِظَمِ منزلة هذا العلم سَمَّاهُ الله تعالى روحا {وكذلك أوحينا إِلَيْكَ رُوحاً من امرنا}(الشورى) وسماه الله تعالى نوراً {قد جاءكُم من الله نورٌ}(المائدة) وسماه هدى {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}(طه) فهل يمكن أن يكون الإنسان إنسانا بدون روح؟ وهل يمكن له أن يعرف الطريق بدون نور؟ وهل يمكن له أن يهتدي بدون عقل مسترشد بدستور فطري يحفظ الكيان، ويصون جوهر الإنسان؟ إن أجيالَنا التي حُرِمَتْ من نور الهدى أُصِيبتْ بالكُساح الفكري والسلوكي على مختلف الأصعدة، وأصبحت تتسوَّل على أعتاب الكفر والنفاق شيئا من قشور العلم الترابي، وقشور العطاء الترابي، مَعَ أن الله تعالى أراد لها أن تنشل الناس من وَهدة التراب إلى آفاق رَبِّ التراب والسحاب علهم يسعدون بحُسْن المآب.
فهل يتدارك الآباء والأولياء والمسؤولون هذا الخطأ في حق الأجيال المؤمَّل أن تكون خيراً من الأجيال التي ضاعت وضيَّعت؟ أم إن دار لقمان ستبقى على حالها إلى أن يُدْرِك الإنسانَ وعيد الله تعالى الذي لا يتخلف؟ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا به فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام : 44).