هَلْ بدأَ التَّشَقُّقُ في جدار الصَّمْتِ القاتل؟ !


إن الإنسانية ابتُليت منذ زمان بعيد بالمنطق الفرعونيِّ الذي يؤلِّه البشر، ويستَعْبد الناس للبشر، مع أن البشر يبقى بشراً عاجزاً أمام نفسه وأمام الناس، بحيث لا يستطيع أن يحرِّر نفسه من لسعات الجوع والظمإ، ولا يستطيع أن يتحرَّرَ من الخضوع لغريزة الجنس، أو غريزة الخوف، ولا يستطيع أن يضمن لنفسه دوام الحياة، أو دوام الصحة والعافية، أو دوام القوة والشباب، ومع ذلك يُؤله نفسه، ويُصدِّقه الناس، ويخضعون له ـ خوفا ورهبة أو رجاء ورغبة ـ فيقول لهم {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْديكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد}(غافر). فلا يرفعون رؤوسهم مصارحة وتكذيبا لادّْعاء الصَّوابِيَّة المطلقة، والنزاهة المطلقة التي هي من اختصاص الله تعالى، ولا يرفعون أصواتهم استنكارا لهذا الإدِّعاء الباطل، وإنما يقابلون ذلك بالسمع والطاعة، والخضوع الذليل.

إذ التأليه للإنسان لم يحدث -على مَرِّ التاريخ- بسبب انعدام الهُدَى الرباني أو انقطاعه ولكنه كان يحدث بسبب التغييب له ورفضه من لدن الأغلبية الكافرة السفيهة التي لا طاقة للقلة المؤمنة بها، فكان الله عز وجل يتَدَخَّلُ مباشرة لإهلاك الطُّغْمَةِ الفاسدة وتدمير ها لعَلَّ الخَلَفَ يَتَّعِظ، ولكن العقول المتحجِّرة ظلتْ دائما حاجزاً بين الإشعاع الربَّاني وبين معانقة الجماهير المستضعفة له، حتى اختار الله تعالى لهداه قلوب العرب الذين فقهوا مغَازِيَ الدين ومقاصده بسهولة في مُدَّةٍ يسيرة، وتَجَنَّدوا بحماسٍ واعٍ، ووعْيٍ متحمِّسٍ لنشر الهُدى الذي اختارهم الله عز وجل جنوداً لهُ ودُعاةً لأنواره، فكان الانتشار السَّريع الذي قلب التاريخَ رأسا على عَقِبٍ، وحَوَّلَ الحياة الإنسانية من الحياة الذليلة إلى حياة العز والكرامة الإنسانية، التي لا تعرف إلا الله عز وجل معبودا بحق، ولا تعرف إلا الإنسان مُكرَّما آمنَ أو كفَر.

وكانت نقطة الانطلاق في الزَّحف على ظلم الظالمين تتلخص في شيئين اثنين :

> أولهما : تقريرُ السِّيادَةِ لله تعالى؛ ومعنى هذا المبدإِ، أَنَّ الذي خلق، ورزق، وسخَّر الكون للإنسان، هو الذي له الحق في وضْعِ التشريع المناسب لسَيْرِ الإنسان في هذا الكون، حتى يكون هذا الكون خادما له، وليس ضِدّاً له حرباً عليه، لأن الذي خلق الكون والإنسان هو أعلم بمصلحة الإنسان في هذا الكون، {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينٌ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}(يوسف).

معنى هذا أنّه لا حَقَّ للإنسان ـ بحكم جهله وهواه ـ في أن يُشَرِّعَ لأخيه الإنسان في غير دائرة السيادة الربَّانِيَّة.

> ثانيهما : تقرير السيادة للأُمَّة الرَّبَّانية في إطار الهداية الربانية؛ أي أنَّ الأمة المسلمة لها كامل السيادة في اختيار من يُشرف على تنفيذ الشَّرع الإسلامي، ومن يجتهد في المُستَجدَّاتِ وِفْقَ المقاصد الكبرى للشريعة، ومَنْ يُؤَدِّبُ المُحْدِثين شُروخاً وفُتوقا في البنية الإسلامية، ومَنْ يسهر على التعليم للشَّرعِ وكُلِّ ما يصونه من مُؤيِّدات علمية بالمفهوم الواسع للعلم، وَمَنْ يَعمل على تجديد الدّين بتجديد الأسلوب، وتجديد الفهم على ضوء العصر والمَصْر.. إلى غير ذلك من مختلف أنواع الممارسات السِّيادية التي تُمارَسُ في إطار السيادة الربانية، {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ}(النساء).

ولقد رَسَّخ هذه الحقيقة الجامعة بين السِّيادَتين الخليفة الأول أبو بكر الصديق ]، حيث قال في أول خطبةِ التَّوْلِيَّة : “أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وُلّيتُ عَلَيْكُمُ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُوني، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني، أَطِيعُونِي مَا أطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنْ عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلاَ طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ”.

إلا أن هذه الاستقامة في المنهج والرؤية لم تَدُمْ طويلا، فجاء بعد زمنٌ يَسيرٍ من يقول للناس : “أَيُّهَا النَّاسُ : الخَلِيفَةُ هَذَا، فَإِنْ هَلَكَ فَهَذَا ـ ابنه ـ وَمَنْ أَبَى فَهَذَا -بمعنى السيف-”، فبدأت الأمة تُحَيَّدُ عن ممارسة سيادتها في الشورى واختيار الحاكم، إلى أن بدأ يقفز على الحُكم كل ذي عُصبة متسلط، حتى وصل الأمْرُ إلى الانقلابات العسكرية التي أتت بالطَّامَّاتِ والكوارث والمهلكات للسياسة، والاقتصاد، والكرامة، والعلم، أَعْقَبَ ذلك تخلفٌ قاتِلٌ في كل ميدان، لازلنا نتجَرَّعُ مرارته المريرة إلى حدِّ اللحظة، والسببُ إِحْياءُ المنطق الفرعوني القديم {مَا أُرِيكُمُ إِلاَّ مَا أَرَى}، الذي أنعمالله عز وجل علينا بالتَّخَلُّصِ منه يوم أرشدنا إلى منهج الحياة الكريمة المُتلَخِّصِ في قوله تعالى {قُلِ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايْ وَمَمَاتِيَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ..}(الأنعام).

إِلاَّ أن بوادر انقشاع غيوم القَهْرِ والذُّلِّ بدأت تلوح من بعيد في الأفق المشرق بالتَّحَرُّرِ من قبضة الفراعنة المستبدين، وهذه بعض الإِشْراقات :

1- نجاح الرئيس الإيراني الجديد أحمدي نجاد نجاحا فاجأ كل التوقعات، الأمر الذي يدل على أن الشعوب قادرة على أن تحدث التغييرات إذا أتيحت لها الفرص الحقيقية لممارسة سيادتها بكامل الحرية.

2 -  إتاحة الفرصة للمسجونين والمعذبين على يد الجلادين من بني جِلدتنا وغير بني جلدتنا لكي يُعبِّروا ـ كتابة وفضائيا ـ عَمَّا وقع لهم وعليهم من سحق وظلم وإهانة.

3 – السماح بخروج مظاهرات تجاهر صراحة بطلب إزالة الحاكم عن كرسيه الذيجثم عليه بدون حق أكثر من ربع قرن، أو أكثر من ثلث قرن، ويُبَثُّ ذلك على الفضائيات، ولا يتعرض المتظاهرون لإطلاق النار، أو التقييد والتكبيل، أو الرفس بالأرجل الغليظة الثقيلة، أو الدبابات والمزنجرات الطاحنة.

4 – تهييئ الله تعالى لهذه الأمة فئاتٍ قليلةً من المومنين الصادقين المُنِْبَثِّينَ في كل جهة ومكان يرفعون رايات الإيمان، يُقاوِمونَ بها الكفر والطغيان، فكانت نِعْمَ البلسمُ للنفوس الجريحة الواقعة تحت سَنَابِكِ التفقير والتنصير والتجهيل والتهويد والتفسيد.

هذه بعض الإشعاعات التي بدأت تخرق جدار الصَّمْتِ الذليل الذي قتل الأمة على مدى قرون طويلة أَرْجَعَهَا إلى الصفر بعدما أَقْعَدَها الله قِمَّةَ الكرامة والحضارة، فهل سيعْقُبُ هذا الخرق تشقق وتَصَدُّع وانهيار على غرار جدار برلين؟! أم إن المسؤولين من كبار قومنا سيتداركون الأمر ويوجهونه التوجيه السليم الذي يحفظ علىالأمة الكثير من الدماء، والكثير من الأموال، والكثير من الأوقات، والكثير من الفتن التي تَذَرُ الحليم حيران.

ذلك ما نرجوه، ونسأل الله عز وجل التسديد للخطوات الجادة المباركة لكل مسؤول أنار الله بصيرته، فضحى بالمصلحة الشخصية الضيقة في سبيل إنجاز المصلحة العليا للأمة.

{وَمَنْ يُومِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلّْ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(التغابن : 10).

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>