مفكرة الإسلام
لم تعد النغمة السائدة في الإعلام الأمريكي -في الآونة الأخيرة – تتحدث عمن يقومون بعمليات المقاومة في العراق باعتبارهم ‘إرهابيين’ في تغير مفاجئ رصدته بعض الكتابات والتحليلات. لقد تغيرت النغمة واللغة، وبات الأغلب في الوصف هو ‘المسلحون في العراق ‘ وبالكاد يقولون: ‘أتباع الزرقاوي’. كما ظهرت على المسئولين الأمريكيين جميعًا وفجأة أيضًا -خاصة وزيرة الخارجية كونداليزا رايس- أعراض الإصرار على مشاركة ‘السنة العرب’، فصاروا يلحون في كل يوم على ضرورة ‘مشاركتهم في العملية السياسية’ إلى درجة جعلت حكومة احتلال العراق برئاسة الجعفري تشعر بأن الولايات المتحدة تتعمد كشف طائفيتها أو إبرازها هي باعتبارها الرافضة لمشاركة السنة، خاصة بعدما ‘بث’ الطالباني تصريحًا له -على نفس الموجة الأمريكية – أعلن فيه تأييده لتمثيلالسنة بعدد 25 شخصًا في لجنة صياغة الدستور.
المتحدث باسم السفارة الأمريكية ‘شارك في اللعبة’، بوضوح أكثر من غيره حين خرج على الإعلام من بغداد ببيان عما أسماه باتصالات أمريكية مع قادة العرب السنّة فقال: ‘قناعتنا الثابتة أن العملية السياسية في العراق مهمة وحساسة وحاسمة لتحديد مستقبل هذا البلد واستقراره’، وقال: ‘نحن نتحدث مع العراقيين من كل المجموعات المختلفة حول المشاركة في هذه العملية السياسية، ونشجعهم على الانخراط فيها بقوة’.
وبعدها بدأت التقارير تتسرب من كل حدب وصوب وكأنها في سلسلة واحدة، عن مفاوضات أمريكية مع ‘المسلحين ‘ في العراق، فإذا كان المتحدث باسم السفارة الأمريكية لم يفصح صراحة عن فكرة الحوار مع المقاومة -ما فعل أيهم السامرائي- فإن ‘الجارديان’ البريطانية قد ذكرت أن ‘دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين (لاحظ كلمة عسكريين) أجروا محادثات غير مباشرة مع ‘المسلحين’ في العراق، في أول اتصال يحظى ‘بموافقة رسمية’ بين الجانبين بعد عامين من ‘العنف’، وأشارت إلى ‘مرونة’ في موقف الإدارة الأمريكية التي كانت تعارض في السابق مثل هذه المفاوضات. وكان هذا ‘إعلانًا من طرف أجنبي’ عن المفاوضات.
ترى لماذا تتحدث الولايات المتحدة عن المفاوضات مع المقاومة بهذا الإلحاح؟ ولماذا كل هذا الإصرار المفاجئ على إشراك العرب السنة في العملية السياسية؟، ومن قبل لماذا ذهب القنصل الأمريكي إلى د. محسن عبد الحميد ليبلغه اعتذارًا رسميًا عن اعتقاله ‘باعتباره رمزًا سنيًا’؟ وأين نضع تعرض هذا القنصل بعد مغادرته مقر اللقاء في الحزب الإسلامي، لعملية اغتيال قيل إنه نجا منها؟ وفي نفس الوقت كيف يتأتى أن نفهم هذا الكلام عن المفاوضات والتفاوض بينما القتال يجري والهجوم الأمريكي ينتقل من هنا إلى هناك. وقبل هذا وبعده، كيف نقرأ موقف المقاومة من كل هذا الذي يجري ؟
أصل اللعبة ودوافعها
أصل اللعبة فيما يجري هو أن قوات الاحتلال قد خسرت المعركة استراتيجيًا مع المقاومة العراقية، وأن محاولتها لحسم القضية عسكريًا أو من خلال القوة العسكرية قد انتهت إلى الفشل، وأن قوات الاحتلال باتت تفتش عن وسيلة للخروج من المأزق في العراق بأقل الخسائر السياسية سواء على صعيد القوة العسكرية الأمريكية أو على صعيد استمرار الحكومة العراقية. فهي على صعيد الاحتلال تحاول أن تحقق انسحابًا بأقل قدر من الخسائر، ولذلك هي تحاول الوصول إلى نوع من ‘التهدئة ‘ في العمليات العسكرية حتى توجد مبررًا لانسحابها، وحتى لا تنسحب تحت القصف، في نموذج شبيه لما يحدث في غزة حيث تحاول قوات الاحتلال أن تنسحب في هدوء لا تحت القصف حتى لا يكون الانسحاب هزيمة. وهي على صعيد الحكومة العراقية تحاول أن تهيئ أوضاعًا أفضل لها، لكي تكون قابلة للحياة بعد الانسحاب، سواء عن طريق ‘مرحلة ‘ عملية الانسحاب، أو اللجوء أولاً إلى فكرة ‘إعادة التمركز في قواعد خارج المدن، أو عن طريق ‘جر’ قطاعات أوسع من السكان للاعتراف بنتائج الاحتلال وعلى رأسها أحقية بقاء هذه الحكومة أو غيرها من حكومات تظل تحت إمرته ولو من الخارج.
وأصل الحكاية هو أن ما يجري ليس محاولة تجري في اتجاه واحد، أي تجري فقط باتجاه المفاوضات، وإنما هي خطة متكاملة وفي عدة اتجاهات لتحقيق هدف ‘إجبار المقاومة ‘ على التفاوض، أو بالدقة وضعها في حالة وظرف لا تجد أمامها من بد إلا التفاوض. فطريقة التفكير تلك هي من بدهيات تحقيق الاستراتيجيات، أي استخدام آليات متعددة لإجبار الخصم على تنفيذ شروطه، وتطويع إرادته أو إضعافها.
> في الاتجاه الأول: تجري محاولة عزل المقاومة في محيطها خاصة في مناطق وسط العراق وهو ما نلاحظه في الإلحاح على ‘دخول السنة العرب’ للعملية السياسية، والذي لا يعدو كونه محاولة لتقسيم القيادات والمواطنين في مناطق وسط العراق بين راغب في المقاومة ومساند لها وبين من يقبل بالدخول في لعبة الاحتلال. وهذا ما كشف عنه نفس الشخص الذي تحدث عن الحوار مع أطراف في المقاومة -أيهم السامرائي- الذي قال بوضوح: لا شك أن في الحكومة العراقية الانتقالية من يرى أن ازدياد مشاركة العرب السُنة في العملية السياسية سيدفع باتجاه عزل الجماعات المسلحة وإضعافها لذلك أُطلِقت الدعوات من المسؤولين الأمريكيين العسكريين والسياسيين وبعض العراقيين لحث العرب السُنة على الانخراط أكثر في العملية السياسية’.
> وفي الاتجاه الثاني: من الخطة الأمريكية بعد الفشل في المواجهة العسكرية مع المقاومة، يجري تكثيف العمليات العسكرية ضد المقاومة وإظهار القوة العسكرية الأمريكية في أشد صورها دموية -لا علاقة لذلك بالهزيمة أو النصر فالأمر لا يكلف سوى طلعات طيران والهزيمة والنصر معيارها السيطرة على الأرض- وذلك أيضًا من بدهيات تكتيكات الصراع. وهو تكتيك اتبعته القيادة الأمريكية قبل موافقتها مباشرة على التفاوض مع المقاومة الفيتنامية. وهنا جاءت عملية برق بغداد وعملية الرمادي وعملية القائم. وأيضًا سيأتي ما سنشهده من اعتداءات دموية، غالبًا ستجري باستخدام الطيران الحربي لإحداث أكبر قدر من الخسائر بالمواطنين للضغط على المقاومة ومناصريها.
> وفي الاتجاه الثالث: يجري شن حملة من التضليل النفسي على المقاومة وضد المقاومة، وفي هذا الإطار جاء إعلان أيهم السامرائي عن الحوار مع طرفين من المقاومة، لإحداث اختلافات وإثارة الشكوك بين فصائل المقاومة، وكذا لعزل المقاومة عن جمهورها بحكم أنهم باتوا يتفاوضون، كما جاءت هنا أيضًا تصريحات وفيق السامرائي بحدوث اشتباكات بين أطراف من المقاومة في مدينة القائم.
> وفي الاتجاه الرابع: يجري تحويل المقاومة في أعين مؤيديها في الخارج والداخل، من مقاومة إسلامية تستهدف إجلاء الاحتلال عن كامل التراب العراقي – بل عن كامل التراب الإسلامي باعتبارها حلقة في سلسلة العمل الإسلامي المقاوم ضد الاحتلال الأمريكي والصهيوني- إلى مقاومة تمثل حركة طائفية أو ميليشيا داخلية في صراع داخلي على الغنائم. . إلخ، وهو ما ظهر من كلام أيهم السامرائي، فهو إذ أشار إلى أن المقاومة تطلب أن يتحرر ويستقل البلد استقلال تام من الأجنبي، إلا أنه سارع بدس السم بالعسل بالقول :’عندهم مطالب أخرى إنه يعتقدون إن الجانب السُني العربي اللي هو الجانب اللي مُمَكن أصبحت عليه كثير من المشاكل في خلال الفترة الانتخابية الماضية يقولون إنه ليس لهم ميليشيا مثلا والأخوة من الائتلاف لديهم ميليشيا والأخوة الأكراد لديهم ميليشيا فيقول لك إحنا من يدافع عنا إذاً؟’.
والآن ماذا عن موقف المقاومة، أو كيف نقرأ مواقفها في ضوء تلك التحركات؟
هل هزمت أمريكا فعلا؟
قبلالإجابة عن موقف المقاومة وكيفية رؤيتها لما يجري، يجب أولاً أن نجيب على السؤال: هل هزمت قوات الاحتلال فعلاً؟
الإجابة في واقع الحال لم تعد أمرًا ظنيًا بل هي باتت واقعًا تشي به كل التصرفات الأمريكية.
فهناك الاعترافات الأمريكية المتوالية بالخسائر، حيث أصبح المركز الإعلامي لقوات الاحتلال، يعترف بمعدلات خسائر أعلى للقوات الأمريكية – بما ذكَّر المراقبين بما حدث خلال المرحلة الأخيرة من حرب فيتنام حينما توالى الاعتراف بالخسائر – و هو أمر وان كان لم يصل بعد إلى الاعتراف بحقيقة الخسائر، إلا انه بات يشكل مظهرا من مظاهر إعداد الرأي العام الأمريكي لتقبل الهزيمة.
وهناك التمهيد لإعلان الهزيمة من خلال الاعترافات بقوة المقاومة العراقية وحسن تسليحها وتدريبها، أو هذه الحالة المتكاثرة من الاعتراف بتحسن ‘قدرات الخصم’ والتي ليست إلا لتقديم مبرر مقبول بالانسحاب دون الاعتراف بالهزيمة، فمن ناحية ووفق التصريحات الأمريكية لم يعد ما يواجهه الجيش مجرد فلول لصدام ولا حفنة إرهابيين، بل ‘مسلحين ‘، ومن ناحية أخرى فهناك الاعترافات الأمريكية بتطور قدرات المقاومة، كان أهمها تصريحات الجنرال كيسى مؤخرًا التي قال فيها: ‘إننا كلما حاصرنا المسلحين في منطقة ظهروا في أخرى’، وما سبقها من تصريحات خلال العدوان على مدينة القائم التي قال فيها قادة عسكريون أمريكيون إن المقاومين يرتدون سترات واقية وباتوا يظهرون في المعارك أكثر تدريبًا، وبطبيعة، فإن أحدًا لا يتصور أن القادة العسكريين تحولوا من العداء إلى الإعجاب بالمقاومة العراقية، أو أن نوبة ضمير عسكري قد واتتهم فجأة فجعلتهم يشيدون بأعدائهم؟!
وهناك ما جاء في التقرير الذي أعده معهد الدراسات الإستراتيجية الدولية وجاء فيه أن تصاعد العنف في الأسابيع الأخيرة بالعراق مؤشر على أنه لا القوات الأمريكية ولا الجيش العراقي الوليد تمكنا من زيادة قدرتهما على ضبط الوضع. وأن ‘التدخل الأمريكي في العراق من وجهة نظر تنظيم القاعدة ساعد في إيجاد العديد من الظروف المواتية التي ساعدت في وضع أمريكا في مأزق إستراتيجي، إذ يكرهها أغلب الناس في العالم الإسلامي وينظر إليها حتى حلفاؤها بحذر’.
موقف المقاومة
القوات الأمريكية بدأت تجهز الآخرين لقبول الهزيمة والانسحاب، وهي تخوض معركة الآن للخروج من العراق وفق أفضل شروط لها ولمشروع استمرار الاحتلال من بعد، فماذا عن موقف المقاومة من الخطة الأمريكية الجديدة التي وصفها عضو الكونجرس الأمريكي قائلاً ‘الطبخة تغيرت’؟
القراءة لموقف المقاومة من شواهدها على الأرض تؤكد أن المقاومة ترفض لعبة التفاوض مع قوات الاحتلال وفق الظروف والأجواء الراهنة. كما هي تؤكد أن المقاومة تدرك جيدًا أهداف ما يجري من ‘لعبة’ سواء هدف عزل المقاومة أو هدف تشويه صورتها أو هدف الإيقاع بين فصائلها، وكذلك هي اختارت للرد على تلك الخطة، تصعيد عملياتها ضد قوات الاحتلال، والنفي الفوري لما قاله ‘أيهم السامرائي’ حول مشاركة فصيلين من المقاومة في هذه المفاوضات المزعومة. كما جاءت عملية محاولة اغتيال القنصل الأمريكي بعد أن خرج من مقر الحزب الإسلامي، إعلانًا بأن مثل هذه الأساليب ‘الأمريكاني’ لن تنطلي على أحد.
وبطبيعة الحال فإن تصرفات المقاومة ومفاهيمها تظهر أن المقاومة تعرف أكثر من غيرها طبيعة القواعد في مثل تلك الإجراءات التفاوضية -حين يحين وقتها – والتي تتطلب أولاً إعلان قوات قيادة قوات الاحتلال في البيت الأبيض ، عن الانسحاب وقبول أطراف دولية حضور عمليات التفاوض على الانسحاب واعتبار المقاومة هي الممثل للشعب العراقي وعدم الاعتراف بكل الأشكال التي أقامها الاحتلال على الأرض خلال مرحلة احتلاله وعدم إشراكها كأطراف في عمليات التفاوض إلى آخر ما هومعلوم عن شروط التفاوض.
غير أن النقطة التي ما تزال بحاجة إلى فعل مباشر وضروري من المقاومة، هو أن تبادر إلى تشكيل شكل عام ولو إعلامي يضم معظم فصائل المقاومة، ويتحدث باسمها في تلك المرحلة الحساسة، ويقطع الطريق على الخطة الإعلامية الأمريكية. وعلى الأقل يمكن أن يجري ذلك من خلال أن يتم الإعلان عن العمليات بشكل مشترك باسم الفصائل جميعها حتى لو قام بها فصيل واحد وأن تختار شارة أو علامة واحدة لبيانات المقاومة.
طلعت رميح
(بتصرف يسير)